ارتبط مفهوم الثورة في الذهنية الجماهيرية العربية بـ(الانقلاب العسكري) الذي يقوم به عادةً مجموعة من الضباط والعسكر التابعين لهم ضد النظام السياسي القائم في بلدهم، بحجة إنهاء الاستبداد السياسي، وتحسين الوضع الاقتصادي،
وتغيير الواقع الاجتماعي، من خلال مكافحة الفساد والإطاحة برموز النظام وبطانته الفاسدة، وإحداث آليات عمل سياسية جديدة تنظم حياة الناس في دولة القانون والدستور.. هكذا تقول أدبياتهم وتُعلن في شعاراتهم، كثورة الضباط الأحرار في مصر عام 1952م بقيادة محمد نجيب وجمال عبد الناصر، وانقلاب عبد الكريم قاسم في العراق عام 1958م، وانقلاب جعفر نميري بالسودان عام 1969م، الذي ذاق من نفس الكأس بانقلاب المشير سوار الذهب عليه عام 1985م منهياً حكم نميري، وثورة الفاتح من سبتمبر عام 1969م بقيادة معمر القذافي، التي تلطخت أخيراً بدماء الليبيين في الأحداث الجارية اليوم.. وغيرها من الثورات العربية ذات الطبيعة العسكرية، وهي الثورات التي أغوت القوميين العرب حتى حجبت ضياء التاريخ عن ثورات عظيمة قامت بها شعوب عربية قبل ذلك على مسرح الأمة الكبير، كثورة العشرين في العراق عام 1920م ضد ما يُسمى الانتداب البريطاني، وثورة البراق في فلسطين عام 1929م، وقبلهما الثورة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي خلال الفترة (1839 - 1847م)، وثورة الشعب الليبي بدايةً من عام 1858م بقيادة شيخ المجاهدين العرب عمر المختار ضد الطليان لمدة عشرين عاماً، وثورة محمد المهدي في السودان ضد الإنجليز عام 1881م، وكذلك ثورة عرابي في مصر عام 1882م، والقائمة طويلة من ثورات مجيدة كان لها الأثر الأكبر في تحرير الأوطان العربية من قبضة المستعمر الأجنبي.
هذا الاستعراض التاريخي يكشف نمطين من الثورات العربية جرت خلال القرون الثلاثة الماضية، النمط الأول ثورات شعبية ذات أهداف نبيلة وقيم سامية تركزت جهودها ضد المستعمر الأجنبي، وأخرى ثورات عسكرية بخصائص انقلابية وذات أهداف سياسية تركزت أعمالها ضد الأنظمة القائمة آنذاك. فما الذي تغيّر اليوم بالنسبة للثورات العربية الجديدة التي انطلقت مطلع العام الجاري في تونس ثم مصر وليبيا واليمن وسوريا؟.. الذي تغيّر هو طبائعها الخاصة، فلم تعد انقلابية تُنسخ خيوطها في أقبية العسكر وتسترخص الدماء حتى لو سقط الأبرياء، ولا هي شعبية تبحث عن كرامتها في مقاومة المستعمر بأكفان الموت المعلقة بمحاريب المساجد، إنما هي مزيج خاص، فالشعب مكونها الرئيس وليس العسكر، وظهرت في وضح النهار ولم تختف في ظلام السياسة، وهدفها إصلاح النظام الداخلي وليس معاداة البعيد الخارجي، وقياداتها شبابية وأدواتها تقنية غير تقليدية، وهي سليمة في تعاملها لا تعرف العنف أو الإرهاب، لأن هدفها إعادة الحياة الحقيقية لأوطانها، كونها تبتغي إصلاح البلاد ونفع العباد واللحاق بركب الحضارة المعاصرة، ولكن يبقى أن أبرز طبائع هذه الثورات أنها قامت على الأنظمة التي أسستها ثورات العسكر، بهذا استعادت الشعوب العربية قيادة بلدانها من حكم العسكر.
kanaan999@hotmail.com