|
تشكّل رواية شارلز ديكينز «قصة مدينتين» استعارة ملائمة للتعبير عن الوضع الاقتصادي المنفصم في أمريكا. فصحيح أنه بعد سنواتٍ من معدلات الفوائد المتدنية إلى حدٍّ قياسي، ورزمات الحوافز، وخفض الضرائب، يختبر الاقتصاد الأمريكي الآن تعافياً حقيقياً، لكنه غير متناسق. وفي حين تزدهر أعمال المصارف والشركات الرئيسية يستمر معدل البطالة عند 9 %، وتواصل الشركات الصغيرة الحجم معاناتها.
للوهلة الأولى سيبدو لكم الخليط ما بين الأرباح الجيدة للشركات والنمو الهزيل للوظائف متناقضاً، ولكنه رغم كل شيء الأمران مرتبطان. ويُعزى السبب الأول لبلوغ أرباح الشركات مستويات قياسية عالية إلى أنّ الشركات الكبرى قد تعلّمت متى تنحني ومتى تكون ديناميكية خلال أسوأ أعوام الركود. فالأرباح المتأتية عن طاقم عملٍ أقلّ عدداً لكن أكثر إنتاجاً قد دفعت بالعديد من الشركات الكبيرة الحجم إلى الاستمرار في المقاربة إياها حتى مع نهوض الولايات المتحدة الأمريكية من الركود. ونتيجة ذلك بلغت الأرباح أرقاماً قياسية على الرغم من نمو العائدات الضعيف؛ ما قد يؤدي إلى نقص في التوظيف.
وما يتطلّع إليه الأمريكيون من وظائف يكمن حالياً عند أطراف الهرم الإداري. ومن هذا المنطلق، ومن أجل تحقيق أرباحٍ متينةٍ، تقوم الشركات بإلغاء المستوى المتوسط في الإدارة، أو الطبقة المتوسطة، وتستبدلها عبر توظيف عناصر جدد في أسفل الهرم وترقية عناصر أخرى في أعلى الهرم. وبحسب شركة «اكويلار» (Equilar) للبحث في التعويضات الممنوحة للمناصب التنفيذية فإنّ تعويضات الإدارة العليا قد علت بنحو 25 % هذا العام وصولاً إلى مستويات عالية لم تعهدها قبل الركود، في حين شهدت المناصب المؤقتة وأوساط الموظفين ذوي الدخل المتدني حركة نمو. ونذكر في هذا الصدد أرقام الوظائف في نيسان - إبريل؛ فمن أصل 268 ألف وظيفة جديدة في القطاع الخاص هذا الشهر، هنالك 62 ألف وظيفة في شركة واحدة، ألا وهي «ماكدونالد».
وفي هذا الوقت تتراجع وظائف الطبقة المتوسطة بمعدلٍ مقلقٍ؛ حيث باتت تمثّل الآن أقل من نصف عدد الوظائف في الولايات المتحدة الأمريكية. وتفيد البيانات الجديدة الصادرة عن مكتب إحصائيات العمل الأمريكي (Bureau of Labor Statistics) بأنّه قد تم استبدال وظائف الدخل المتوسط هذه بوظائف أخرى منخفضة الأجر؛ الأمر الذي ترك 17 مليون أمريكي من خرّيجي الجامعات في وظائف ما دون مستوياتهم العلمية. إنّ السؤال الذي يجب أن يطرحه الأمريكيون على أنفسهم في هذا الإطار لا يقتصر على «كيفية إضافة الوظائف إلى الاقتصاد» إنما «كيف نستحدث وظائف في الطبقة المتوسطة، ونعيد بالتالي بناء اقتصادنا؟».
فمن دون هذه الوظائف ستدخل الولايات المتحدة الأمريكية في زمنٍ من النمو الراكد تسكنه فئتان: الفئة الغنية والفئة الفقيرة. إلى ذلك، وبفعل تأتّي ثلثي إجمالي الناتج المحلي عن الإنفاق الاستهلاكي - وتأتّي الإنفاق الاستهلاكي بدوره عن الطبقة المتوسطة - سينتهي الأمر بأمريكا مع اقتصاد آخذ في الانكماش.
(جيف ستيبيل هو رئيس مجلس إدارة «دان أند برادستريت كريديبيليتي كورب» (Dun الجزيرة Bradstreet Credibility Corp) ورئيسها التنفيذي، وهو كذلك من أصحاب المشاريع الجديدة ومؤلف كتاب «التجهيز للأفكار: كيف يحدد الدماغ مستقبل الإنترنت» (Wired for Thought: How the Brain is Shaping the Future of the Internet).