قِلّة هم أولئك النفــر الذين يقفــون عند المبادئ العظيمة، وقِلّة هم أولئك النـفر الذيـن يستشعرون أهمية أمجادهم الذاتية، ولا يغفلون في الوقت نفسه عن صنع الأمجاد لمجتمعاتهم، أو أمتهم. ولا قيمة لحياة تنعدم فيها المبادئ، أو يغيب فيها الإحساس بصناعة المجد، أو المحافظة على هوية الوطن:
إذا المرء لم ينهض بما فيه مجده
قضى وهو كَلٌّ في خدور العواتقِ
وأيُّ حياة لامرئٍ إن تنكّرت
له الحال لم يعقد سيور المناطقِ؟
أمثال (سامي البارودي) كثير بوصفهم رجالاً، وقِلّة في الوقت ذاته بوصفهم أصحاب مبادئ. وأصحاب القيم والمبادئ يمتلكون من الشجاعة ما يجعلهم يؤثرون العزلة، ويأنسون بحياة الغربة حين تلف الفتن أوطانهم، أو يجدون أنفسهم لا يقوون على مواجهتها. فالإيثار وتقديم المصالح العامة على الخاصة ينمّان عن وعي كبير. والتنازع على أمجاد وهمية، أو في حكم الزوال، تقود الإنسان وتقود المجتمعات إلى أنفاق مظلمة. ما تقدم عواطف فرد، لكن المجتمعات إذا لم يكن لديها إحساس بأهمية بناء أمجادها، والحفاظ على مكتسباتها على أسس سليمة وقواعد متينة، ضاعت هي الأخرى، أو ابتلعتها المجتمعات الحيّة اليقظة.
المجد لا يتأتى عن طريق الثورات، أو إذكاء روح الصراع بين الطوائف والأطياف، أو الانسياق وراء الوعود، أو الأماني الباطلة، أو يقف الإنسان في حال ترقب لما تؤول إليه الأحداث وكفى.
الأمجاد وصناعتها تأتي من خلال استدعاء للتاريخ، وتقييم مسيرته، والاستفادة من هفواته وعثراته، وليس التركيز أو التحليل للحدث الآني. والمنقطعون دائماً عن التاريخ هم الذين يركضون بالحياة إلى الفوضى غير الخلاّقة، أو يقادون إليها، وهم لا يعلمون؛ لذا ليس من الغريب أن نجد من يهرب، أو يتهرب من كشف بعض الوقائع التاريخية إذا لم تتفق مع رغائبه.
الشعوب لا تستيقظ أحياناً إلا عند وقوع الكوارث المؤلمة، ولا تلتفت إلى يمينها، أو شمالها، وتستنبط العِبَر. أصحاب المبادئ يستبقون الأحداث، ويستدركون الخطايا، ويحاولون وضع الأمور في نصابها الصحيح. بعض المآسي أو التجارب تضيع مع زحمة السنين، وتعاقُب الأحداث، وقد يستطيع فرد ما رسمها للأجيال عبر فنٍ استباقي. دونك ما رصده شاعر من (اليمن السعيد) عاش أكثر من نكبة، وخاض أكثر من تجربة مع الأحزاب. اليوم نستدعي وقائع حياة بني وطنه في الغربة من خلال التفاتة له:
عرفتـــهُ (يمنيا) في تلــفته
خوفٌ، وعيناه تاريخٌ من الرمدِ
من خضرة (القات) في عينيه أسئلةً
صفرٌ تبوحُ كعود نصف متقدِ
يتنقل (اليمني) بأكثر من (اسم) في مطارح عديدة هروباً من جحيم الحروب المنتظرة:
ما اسمُ ابن أمي؟ (سعيدٌ) في تبوك، وفي
سيلان (يحيى)، وفي غانا (أبوسندِ)
من مات يا بني؟ من الباقي؟ أتسألني
فصول مأساتنا الطولى بلا عددِ
هذا هو الشعور، فصولٌ من المآسي تنتظر الطامحين إلى (الديمقراطية) بعكازة الغربيين.
dr_alawees@hotmail.com