كانت المرأة في المجتمع السعودي تقوم بدور رئيس في الحياة الاجتماعية في الفترة السابقة لمرحلة الطفرة، وكانت المشكلة التي يكثر حولها النقاش آنذاك تتمثل في طرح التساؤل الذي مفاده: لماذا تقوم المرأة بكل تلك الأعمال؟ ومتى تستريح المرأة من كل ذلك العناء؟
إنها تحتطب، وتحلب، وتخض، وتجلب الماء، وتجمع العلف، وتطبخ، وتغسل وتقوم بأعمال كثيرة..!! ودار الزمان دورته، وتغيرت الحياة، وتغير المجتمع، وبتغيره تغير موضوع المرأة بل أصبح معاكساً لسابقه، وأصبح التساؤل يتمثل في: لماذا المرأة لا تقوم بعمل؟ إنها طاقة معطلة، وهي تمثل نصف المجتمع، أي أن خمسين في المائة من الطاقة العاملة في المجتمع معطل..!! وهذه المقولة تشبه رفع المصاحف في معركة الجمل، والتي وصفها الإمام علي رضي الله عنه بأنها كلمة حق يُراد بها باطل..!!! فوظائف المرأة الرئيسة ثلاث:
(1) الأمومة.
2) القيام بشؤون الأسرة.
3) المشاركة في خدمة المجتمع خارج المنزل.
والتدرج هنا تراتبي، أي أن المرأة وظيفتها الأولى تتمثل في الأمومة، ولو توقفت المرأة عن هذه الوظيفة لانقرض الجنس البشري، ولهذا أودع الله في الأنثى - أي أنثى - هذه الغريزة الفطرية التي تفوق في قوتها -كما تشير الدراسات الغريزة الجنسية -غريزة الرغبة في الحياة نفسها، ففي جميع الكائنات تقريباً نجد الأم هي التي تعنى بالمولود، وتدافع عنه، وتقاتل وتستميت في سبيل ذلك. نرى الدجاجة وهي كائن ضعيف تتحول إلى حدأة وتهاجم القطط وتقاتلها إذا شعرت أنها تهدد صغارها. ولا أنسى قصة طريفة وقعت في قريتنا على قمم جبال السروات في أيام طفولتي المبكرة، فقد وضعت كلبة مجموعة من الجراء، فجاء أحدهم وألقى بهم في بئر مهجورة لا ماء فيها، وظلت الجراء تنبح وتصيح وكأنها تطلب النجدة والعون، جاءت الأم وحامت حول البئر، ثم ألقت بنفسها في داخلها وأخذت ترضع الجراء، لاحظت ذلك سيدة من أهل القرية ففاضت دموعها لهذا المشهد الذي تتمثل فيه الأمومة في أقوى صورها، وأكثرها تأثيراً، وإذا بقيت الكلبة وجراؤها في البئر فسوف يموتون، ويأثم بذلك كل من يستطيع أن يغير الوضع، فجلبت تلك السيدة مكتلاً وحبلاً، وأنزلته في البئر فحملت الأم جراءها ووضعتهم في المكتل ثم ألقت بنفسها معهم، فقامت السيدة برفع الجميع إلى أعلى، وأخرجتهم من الجب إلى فضاء الحياة الواسع، ولعل هذه الفعلة تشفع لها عند الله وتدخلها الجنة، إنني أعرف تلك السيدة معرفة شخصية، فهي أقرب الناس إلي.. إنها أمي رحمها الله وأسكنها فسيح جناته..
عندما أذكر تلك الحادثة أتذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، وحديثه عن الرجل الذي دخل الجنة لأنه سقى كلباً بجلب الماء من البئر في خُفِّه.. وحديث الرسول عن أن في كل كبد رطبة أجر.. ولعظم وظيفة الأمومة جعل الله الجنة تحت أقدام الأمهات، وجعل 75% من أحقية الصحبة بالنسبة للأبناء موجهاً للأم. أما الوظيفة الثانية للمرأة فهي العناية بالأسرة، فالمرأة التي كانت تحلب وتخض وتجمع الحطب وتجلب الماء وتكنس وتنظف وتشارك في أعمال الحياة المختلفة، أصبحت اليوم عاجزة عن القيام بأعمال منزلها، فلابد من خادمة، وفي أحيان كثيرة لابد من وجود أكثر من خادمة، وأعمال المنزل والعناية بالأبناء والزوج أصبحت أقل شقاء وعناء مما كانت تقوم به المرأة في الماضي، فالمكنسة، والموقد، والغسالة، والصنبور، وغيرها من الأدوات هونت على المرأة الكثير من الجهد والوقت، ورغم ذلك لابد من خادمة.
وفي تصوري أن المرأة التي تنجح في العناية بمنزلها وأسرتها لا يمكن أن نعتبرها امرأة عاطلة، حتى بالمفهوم الاقتصادي، فما تقوم به من أعمال يمكن أن تضاف إلى الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد الوطني، وعندما تنجح المرأة في تربية أبناء صالحين وناجحين فإنها تخدم الوطن خدمة كبيرة، فما أحوج الجيل إلى أم حنون تزرع فيهم القيم، وتغرس مبادئ الإسلام الخالدة، وتحصنهم ضد الجريمة والانحراف، وتحاول مع الأب حمايتهم من كل ما يستدرجهم إلى الضياع والانحراف والشذوذ والتراخي. إن المرأة التي تقوم بتلك الوظيفة خير قيام يجب أن تكرم، وأن يقدم لها وسام على هذا العمل المقدس والجليل. أما الوظيفة الثالثة والتي أصبح كثير من النساء يقفزن فوق الوظيفة الأولى، وفوق الوظيفة الثانية إليها فهي العمل خارج المنزل، وهي وظيفة أعتقد أنها فرض كفاية للقيام ببعض الأعمال التي تخدم المرأة مثل التدريس، والتطبيب، وكل ما من شأنه خدمة المرأة، ويجب أن يكون العمل في تلك الوظائف بنصف دوام ونصف راتب حتى تتفرغ المرأة بما يكفي لخدمة بيتها وأسرتها. إن العمل خارج المنزل، والصرف على الأسرة من واجبات الرجل ومن أبرز وظائفه، أما العمل داخل الأسرة والعناية بشؤونها الداخلية فمن واجبات المرأة ومن أبرز وظائفها. وبهذا يستقيم العمل، وتتم المحافظة على كيان الأسرة، وحماية الأطفال من تأثيرات الخادمات والسائقين. ولكن مع ذلك فأنا أطالب بفتح المجال أمام الأم، وربة المنزل لقضاء وقت فراغها - وهو كثير - بما يفيد، مثل وجود أندية أو مراكز في الأحياء مزودة بكل ما تحتاجه الأسرة من مكتبة، وملاعب، ومسابح، وفصول لتلقي الدورات المفيدة للمرأة، وتدريبها على القيام بواجباتها المنزلية. ومع هذا وذاك فبإمكان المرأة المؤهلة أن تقوم بكثير من الأعمال من داخل المنزل، فوسائل العمل عن بُعد أصبحت متوفرة ومطبقة في كثير من الدول عن طريق الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة، ومن ذلك القيام بطبخ بعض الوجبات وبيعها لمن يريد، وهذا عمل أصبح منتشراً في كثير من مدننا ضمن برنامج الأسر المنتجة، فليس هناك مطعم يعادل عمله ونظافته وجودته شغل البيت، سواء تم استهلاك الطعام من قبل أفراد الأسرة أم من قبل جماعات خارج الأسرة.
إن المرأة هي عمود الأسرة، وقلبها النابض، فإذا قامت بدورها كما يجب نشأ الصغار نشأة سليمة، وتمتعوا بصحة نفسية عالية، يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم رحمه الله:
أنا لا أقولُ دعوا النساءَ طوالقاً
بين الرجال يجلن في الأسواق
ربوا النساء على الفضيلة إنها
في الموقفين لهن خير وثاق
الأمُّ مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طيب الأعراق
ويجب أن يساندها الزوج في ذلك، وبهذا نحافظ على الأسرة التي تعتبر أهم مؤسسة اجتماعية في الوجود. والمجتمعات التي يرتفع فيها معدل الجريمة، ومعدل الانتحار، ومعدلات استغلال المرأة والتحرش بها واغتصابها هي مجتمعات تحطمت فيها الأسرة واختلطت فيها الأدوار، وتشابكت فيها الوظائف، وكثر فيها الصراع بين الجنسين. ويمكننا أن نتجنب ما وقعوا فيه، والمرأة هي الضحية الأولى لتلك الأوضاع وهي العامل الحاسم لتجنبه وتلافيه.. والله الموفق.
zahrani111@yahoo.com