تعني البيروقراطية في ترجمتها الحرفية (حكم المكتب) ويعتبر عالم الاجتماع الألماني (ماكس فيبر) من أشهر المنظرين لها، وقد وضعت وفق تسلسل هرمي للسلطة، وتدرج في المسؤولية، وإجراءات معينة للمعاملات، وكان الهدف الأساس للبيروقراطية ولا يزال يتمثل في ضبط .....
..... الأمور، وتوجيه مسارها بما يخدم العمل، ولكن مع مرور الزمن، وتزايد التعقيدات، أصبحت البيروقراطية تعني عند الكثيرين (الروتين)، وفي كثير من الحالات يكون ذلك الروتين قاتلا، ومؤخراً للإنجاز، وأحياناً معطلاً ومانعاً له، ومستهلكاً للجهد والوقت، وهناك قصة خيالية طريفة لو أن البيروقراطية عرفت في زمن ابن المقفع لحواها كتابه الشهير كلية ودمنه، الذي يقال إنه ترجم عن الهندية، ومحور تلك القصة يدور حول نملة كانت تستيقظ مبكراً قبل الجميع، وتتوجه إلى عملها بجد ونشاط واجتهاد، وتنتج بكفاءة عالية وكلها سعادة وغبطة وسرور، لاحظ الأسد الذي يمثل دور المدير والمشرف، أن تلك النملة تقوم بعملها على خير ما يرام دون أن يكون هناك من يشرف عليها، فقال في نفسه إن أداءها هذا بدون إشراف سوف يكون أفضل وسيتضاعف إذا كان هناك من يشرف عليها، فعين جندباً كان لديه خبرة في الإشراف وكتابة التقارير ليقوم بهذه المهمة، فكان أول قراراته وضع نظام للحضور والانصراف، ووجد أن هذا العمل بحاجة إلى سكرتارية للمساعدة في كتابة التقارير، وقام بتوظيف جرادة لإدارة الإرشيف ومتابعة الأداء، ابتهج المدير من التقارير التي تصله، وطلب تحسينها بوضع رسوم بيانية لإبرازها، وتحليل المعطيات بطريقة احترافية وعميقة لعرضها على مجلس الإدارة، ولتحقيق ذلك قام الجندب بشراء حاسب آلي، وآلة طابعة ملونة، ووظف يعسوياً ليكون مسؤولاً عن أنظمة المعلومات، أما النملة وهي المعنية الأساس بكل تلك التطورات، فقد كرهت العمل لكثرة الأعمال الورقية، ولكثرة الروتين الذي يجب أن تمر به كل يوم، والذي كان يستهلك الكثير من وقتها، وهنا أدرك المدير (الأسد) أن هناك مشكلة تحتاج إلى معالجة، ومن ثم يجب تغيير آلية العمل في القسم، ولتحقيق ذلك قام بتعيين نحلة للقيام بهذه الوظيفة، وأول قرار اتخذته النحلة هو تغيير الأثاث والسجاد ودهان المكتب لكي يشعر الموظفون بالراحة، وقامت بشراء حاسب آلي، وتوظيف مساعد شخصي ليساعدها في أداء المهمة التطويرية، وتقنين الميزانية وبهذا أصبح القسم التي تعمل به النملة قسماً حزيناً، لا مجال فيه للبسمة، أو النكتة، أو الضحك، والجميع أصبح محبطاً في تلك الأجواء المتوترة التي يحكمها ويتحكم فيها الروتين، وهناك تقدم الجندب باقتراح للمدير مفاده دراسة البيئة العامة للعمل، وبعد مراجعة تكاليف التشغيل وجد المدير أن التكلفة السابقة أقل بكثير مما هي عليه الآن، ولاد من تقليص النفقات، وهناك قام بتوظيف طائر نورس مستشاراً إدارياً، ومدققاً داخلياً لإيجاد حل مناسب لهذه المشكلة، وبعد دراسة مكثفة دامت ثلاثة أشهر رفع النورس تقريره للمدير أفاد فيه أن القسم متضخم جداً من حيث عدد الموظفين ولابد من تسريح البعض، من تتوقعون أن يفصل، وأن يطرد من العمل؟! لقد كانت النملة هي الضحية، وهي الأساس الذي قامت من أجله تلك الإدارة، وهي التي كانت تنتج بدون مراقبة وبدون روتين، من كل ما سبق نستنتج أن الروتين يكون في أحيان كثيرة قاتلاً ومقيداً، وحائلاً دون الإنجاز، ولذلك تعمد بعض الإدارات إلى إعطاء موظفيها الحرية التامة، ومحاسبتهم على إنجازاتهم، فكم من موظف ينجز في ساعات قلائل ما ينجزه غيره في أسابيع، وكلاهما يأخذ المرتب نفسه، وأحياناً تجد الكسول يحظى ببعض المميزات مثل الانتدابات، وخارج الدوام، لأن له علاقة بالمدير، أو بصانع القرار، وهذا ما يجعل أكثر شبابنا يميل إلى العمل في القطاع الحكومي، لأن الوظيفة مضمونة، والإنتاجية في الغالب قليلة ومحدودة، أما القطاع الخاص الذي يعتمد فيه العائد على ما ينجزه الموظف، وعلى ما يبذله من جهد، وما يقدمه من أفكار، وما يبدعه من طرق جديدة فهم يهربون منه، وبملاحظة بسيطة نجد أن جميع الدول التي تقدمت قام تقدمها على جهد القطاع الخاص وكان دور الدول يتمثل في الإشراف، ووضع السياسات والمراقبة، وحفظ الأمن والنظام، وضمان صحة التعاقدات وتنفيذها، والله الموفق.
أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام
zahrani111@yahoo.com