هذه الروح التي هي سرّ الحياة في الإنسان، وفي كثير من العوالم، أمرها عَجَبٌ، ومحجوبٌ سرّها عن الإنسان يقول الله جل وعلا في سورة الإسراء: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً (الإسراء آية 85 - 86)..
يقول أبو السعود في تفسيره: الظاهرة أنّ السؤال كان عن حقيقة الرّوح، الذي هو مُدبِّر البدن الإنساني، ومبدأ حياته، رُوِيَ أنّ اليهود قالوا لقريش: سلوه عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الرّوح، فإن أجاب عنها جميعاً أو سكت فليس بنبيّ، وإن أجاب عن شيء، وسكت عن بعض، فهو نبيّ، فبيّن لهم صلى الله عليه وسلم القصّتين وأبهم الثالثة، الثالثة وهي أمر الرّوح، وهي مبهمة في التوراة.
وهذا السؤال قُصِد به التعنّت والتعجيز، ويسمِّى البلاغيون مثل هذا الجواب: بأسلوب الحكيم. فهذه الرّوح غير محسوسة، ولكنها سرّ الإحساس كله، ولم تكن مُدركة بما هو معهود للإنسان أيضاً، ولكنها سرّ الإدراك الذي يحسّ به الإنسان، في كل شيء، وتَقْصُرُ النفس البشرية عن الإحاطة بها، سراً ووجوداً، وإحساساً وإدراكاً، فهي من أمر الله جلّ وعلا، ودلالة على قدرته المتناهية، وعظمته التي تفوق كل تصوُّر.
وقد وقف المفسّرون رحمهم الله، عند هذه الآية وقفات متأنّية، فمنهم من مرّ بها عَرَضاً، لأنها فوق علمهم، وتصوّراتهم ومنهم من تعرّض لها، بما يُعجز العقل البشري، ويجعله مرتبطاً بخالقه، عاجزاً عن إدراك بعض أسرار نفسه، مما يدل على أنّ الإنسان مهما وصل لمنزلة علمية، فهو جاهل ومهما كَبُر في نفسه فهو صغير، وعليه أن يستشعر هذا الدعاء: سبحانك يا رب لا علم لنا لا ما علَّمتنا، اللهم عرّفنا مكانة نفوسنا، وجنّبنا الكبر حتى لا ننازعك رداءك، وحتى نعرف لنفوسنا قدرها، وجنّبنا الإثم والفواحش.
قال صاحب الظلال: عندما مرّ بهذه الآية الكريمة: ليس في هذا حجرٌ على العقل البشري أن يعمل، ولكن فيه توجيهاً لهذا العقل، أن يعمل في حدوده، وفي مجاله الذي يُدركه، فلا جدوى من الخبط في التّيه، ومن انفاق الطاقة، فيما لا يدركه سواه سبحانه، وسرّ من أسرار القدسيّة، أودعه هذا المخلوق البشري، وبعض الخلائق التي لا نعلمها ولا حقيقتها، وعلم الإنسان محدود بالقياس إلى علم الله المطلق، وأسرار هذا الوجود أوسع من أن يحيط به العقل البشريّ المحدود.
والإنسان لا يدير هذا الكون، فطاقاته ليست شاملة، إنما وُهِبَ منها بقدر محيطه، وبقدر حاجته، ليقوم بالخلافة في الأرض، ويحقق فيها ما شاء الله أن يحققه، في حدود علمه، ولقد أبدع الإنسان في هذه ما أبدع، ولكنه وقف حسيراً أمام ذلك السر اللطيف: الرّوح لا يدري ما هو ولا كيف جاء، ولا كيف يذهب، ولا أين كان، ولا أين يكون، إلاّ ما يخبر به العليم سبحانه، الخبير في التنزيل.
وما جاء في التنزيل هو العلم المستيقن، لأنه من العليم الخبير، ولو شاء الله لحرم البشرية منه، وذهب بما أوحى إلى رسوله، ولكنها رحمة الله وفضله.
فالرّوح جزء مما في أجسامنا، ولكن علم البشر قَصُرَ عن معرفة كنهه، أو تصوّره وسرّه .أ.هـ.
وقد اهتم الأطباء في عصرنا الحاضر ببحوث عن الرّوح، لأنّ الموت لا يتم إلاّ بخروج الرّوح، وهل هي في القلب أو الدماغ أو الدم، لأنّ الموت يحصل للإنسان، من توقف هذه الأمور عن العمل.
كما اختلف العلماء من قبل في ذلك، وقد ألّف ابن القيم - رحمه الله - في ذلك كتاباً كبيراً سمّاه الرّوح، وفيه ناقش تقسيمات الإمام الفخر الرازي الطبيب المشهور، وتعريفاته للرّوح والنفس، وماذا يُقْصد بالإنسان، هل هو الجسم فقط، أم الجسم والرّوح؟ أم الأخلاط الأربعة، أم الدم أم الرّوح اللطيف، الذي يتولّد في الجانب الأيسر من القلب، وينفذ في الشريانات إلى سائر الأعضاء، أم أنه الرّوح الذي يصعد من القلب إلى الدماغ، أو أنه جزء لا يتجزأ من القلب؟ أو أنه جسم نوراني علويّ خفيف متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيه سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم؟
إلى آخر ما ناقش من أمور، ولم يصل إلى نتيجة واحدة مما أورد، وهذا مما يزيد المرء إيماناً بالله الخالق وبقدرته في خلقه، ويعجز المرء عن إدراك - أي مجال علمي - ما لم يفتح الله له باباً بعلمه وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ (النساء 113).
إنّ هذه الرّوح التي ينفخها الله في الإنسان، وهو في بطن أمه بعد مرور الأطوار الثلاثة عليه: النطفة والعلقة والمضغة، وهي كما في حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، المتفق عليه (120) يوماً، ولا تفارقه إلاّ بعد انقضاء أجله، الذي حدّده الله له في هذه الحياة.
هذه الرّوح موجودة في مخلوقات كثيرة، ممّا نعلم وممّا لا نعلم، وفيها دلالة على عظمة الله جلّ وعلا، وكمال قدرته وشمول علمه، ولما كان قد عجز الباحثون عن معرفة حقيقتها، فإنها ممّا استأثر الله سبحانه بعلمه، مثلما أنّ القيامة ممّا لا يعلمه إلاّ الله، وصدق الله: وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (الإسراء 85).
وهذا ممّا يوجب على الإنسان، استحضار عظمة الله في كل موقف يمر به، والارتباط به جلّ وعلا دعاءً وعبادة، وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذي علّم أمته إياه، أن يقول المرء بعد اليقظة من النوم: «الحمد لله الذي أحياني بعد أماتني وإليه النشور) متفق عليه.
فالإنسان يجب عليه إدراك ضعفه، أمام قدرة الله سبحانه، والتمعُّن في أسرار نفسه المتعددة، لتزيده ارتباطاً وشكراً، لمن أوجدها ومدبّرها، لأنه القادر على كل شيء، المحيط علماً جلّ وعلا بما ندرك وما لا ندرك، وخير وأقرب ما يجب أن يتفكّر فيه الإنسان نفسه وجسمه، وما فيهما من الأسرار والعجائب، والله سبحانه وتعالى، يدعونا إلى ذلك التفكُّر والتمعُّن في المخلوقات العظيمة والدقيقة، وأقرب ما إلى كل واحد هذه النفس، وما أودع الله فيها من الأسرار حيث قال: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الذاريات 21).
وفي هذا الإدراك ردّ على الماديين والملاحدة الذين يشككون في وجود الخالق تعالى وتقدّس عما يقولون.
ومنذ مدة كتبت مجلة طبية بحثاً عن سرّ الرّوح، في الكائنات ومنها الإنسان، ولم تستطع الوصول لرأي مقنع، بل تم العجز، بالنتيجة والتجربة، عن الوصول لخيط يوصّل، عن كنه هذه الرّوح أو الوصول لشفافيّتها وتصوّرها.
وكان ممّا جاء في ذلك، تجربة دقيقة أجرَيتْ على فئران لمحاولة السيطرة على أرواحها، ومعرفة أين تذهب الروح وكيف تجيء، فأُحْكِم عليها الغطاء، في بيوت زجاجية، متوالٍ بعضها فوق بعض، وفي الأسفل منها حيث توجد الفئران، وعندها طعامها، وقد زوّدت بكمية محدودة من الأوكسجين، ثم أُحْكم الغطاءات واحداً بعد الآخر، وُروقبَتْ هذه الفئران لمعرفة القدرة على الحياة، وإلى أين تذهب أرواحها؟!
ما دام كل شيء محكم الإغلاق، ولا يُسمح بدخول أدقّ شيء محسوس من نسمة الهواء وغيره.
إلاّ أنّ هذه الفئران بدأت تهزل وتضعف شيئاً فشيئاً، مع تناقص الأوكسجين، واستهلاكه، وامتلاء هذا المحبس، ورُوقبت هذه الفئران فإذا بها تموت تتابعاً، وراقبوها بعد الموت: هل يمكن معرفة سرّ الحياة فيها، وهو الرّوح وإلى أين تذهب؟!
ما دام كل شيء محكم إغلاقه ولا يُسمح بدخول أدقّ شيء محسوس، وهو الهواء.
فقد لوحظ أنّ هذه الفئران بدأت تضعف قليلاً قليلاً، مع نقص الأوكسجين واستهلاكه، وامتلاء غرفة الاختبار بمعاكسه ثم ماتت، وتركت فترة قبل فتح زجاجات الاختبار لمحاولة السيطرة على سرّ الحياة فيها، وهي الرّوح، ومعرفة كنهها، والطريق الذي تنفذ معه، وهل تكسر هذه الزجاجات واحدة بعد الأخرى لتخرج؟.
لكن التجربة خرجت بنتيجة الفشل عن تصور هذه الرّوح وحجمها وكنهها، ومن أين تجيء وكيف تذهب، وصدق الله في قوله الكريم: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (الإسراء آية 85).
وفي هذا برهان على عجز وضعف، النفس البشرية، والعرفان بذلك من مداخل العبادة الوجدانية، لإرجاع الأمر والعلم لله سبحانه.