خلال الأشهر الأربعة التي قضيتها مع والدي -رحمه الله رحمة واسعة- في الولايات المتحدة تعلمت أشياء كثيرة، وقابلت أشخاصاً من أوطان بعيدة ظننت أنني سأموت قبل أن أرى أحداً ًمنها، سمعت قصصهم واقتربت أكثر من عالمهم، معاناتهم، وأحلامهم الجميلة، مررت بمواقف حزينة وأخرى سعيدة بل وطريفة أحياناً، عشت قصصاً وأصبح في جعبتي حكايات غريبة ورائعة أرويها وأتحدث عنها لعائلتي وأصدقائي وربما أحفادي في المستقبل.
من تلك القصص المضحكة والمواقف الطريفة رغم الارتباك الذي عشته أثناء حدوثها، هي قصتي مع جهاز الطوارئ الأمريكي والذي يحمل الرقم الشهير 911 قبل أشهر قليلة.
حيث كنا نقضي أمسية عائلية هادئة في المنزل في إحدى ليالي الشتاء الباردة في كاليفورنيا، وبعد الانتهاء من طعام العشاء قررت (واشتهيت)-في ظاهرة نادرة الحدوث- كوباً من الشاي.. فتوجهت إلى المطبخ، وملأت إبريق الشاي بالماء، وفتحت تحته ناراً عالية وعدت من حيث أتيت بانتظار الإبريق أن يغلي، وحين عدت وكانت المياه قد وصلت لدرجة الغليان بل وأكثر! حملت الإبريق وسألت الموجودين وأنا أميل برأسي من خلف الباب إذا كانت لديهم الرغبة باحتساء كوب من الشاي فلم يكمل البعض جوابهم الذي لم أنتبه له أصلاً، حتى سمعوا صوت صرختي المدوية بعد أن انكب الماء المغلي على يدي، وصوت سقوط الكوب على الأرض متحولاً إلى أشلاء متناثرة في أرضية المطبخ، كان الألم صارخاً في البداية، لم أستطع تحريك كفي وأصابعي من شدة التشنج الذي أصابها، ارتبك الموجودون مع وجعي الذي لم يهدأ، وتوزعت الأدوار بينهم ما بين منقذ ومصدوم ومستفسر عن التفاصيل، وكانت عمتي -جزاها الله خيراً- الأكثر تفاعلاً مع الحدث، حيث تساءلت عن أفضل طريقة لتخفيف الألم، وتاهت وتهت معها ما بين عدة خيارات كان أبرزها الاستعانة بالثلج والماء البارد أو وصفة ونظرية قديمة تؤيد معجون الأسنان وأخيراً رأي إيطالي ينصح بتخفيف الحروق بصلصة الطماطم!! حقيقةً لم يكن الموقف يحتمل التحزير أو حتى المجازفة، فاقترحت وليتني لم أفعل الاتصال بـ 911 لأقطع الشك باليقين، فاتصلت عمتي بهم تخبرهم بما حل بيدي وتستشيرهم بالعلاج فنصحوني -وهذه نصيحة لك أيضاً عزيزي القارئ- أن أضع محل الحرق في ماء فاتر أي -لا حار ولا بارد- وأخذوا اسمي وعنوان المنزل وسألوا عن حالتي بالتفصيل غير الممل، وما هي إلى 5 دقائق (أقسم بالله 5 دقائق يا جماعة) وكل الدفاع المدني في المنطقة أمام البيت لدرجة أن الشارع الذي أمام المنزل قد أغلق تماماً، أنصعق أخي الصغير من هول ما رأى عبر النافذة وشبك يديه على رأسه، فهناك سيارتي شرطة وسيارة إسعاف وسيارة إطفاء عملاقة بخرطوم مياه ضخم على أهبة الاستعداد، ونصحني فوراً بالقيام ببعض (المشاهد الدرامية) بالبكاء مثلاً وادعاء المزيد من الألم الذي بدا يتلاشى تماماً مع (الروعة)! فلم أتوقع أن أواجه مثل ذلك الموقف وأرى مثل ذلك المنظر المهيب إلا على شاشة mbc أكشن!!
طرق أحد القادمين مع فريق الإنقاذ باب المنزل ففتح لهم الباب، الغريب أنهم لم يسألوا هل هناك محرم؟؟ ومن في البيت!! بل دخلوا وكانوا ستة رجال وطبيب واحد تجمعوا حولي وأنا في حالة ذهول من ما يحدث!! وشعرت لوهلة أن قيمتي (كإنسانة) لا كشيء آخر قد ارتفعت وتجلت.
طرحوا علي عدة أسئلة عن تفاصيل كوب الشاي (المنحوس) بعد أن قاسوا حرارة الجسم وضغط الدم، وأكدت لهم أني أشعر بتحسن ولكنهم أصرّوا بشدة لنقلي إلى المستشفى إخلاء للمسؤولية، وفعلاً ركبت لأول مرة سيارة الإسعاف، ووصلنا إلى المستشفى فكانت الصدمة، فبعد هذا الاهتمام العجيب اعتقدت أن الطبيب سيكون في انتظاري ولكني صدمت حين (لطعوني) في غرفة الانتظار التي عادت بذاكرتي «لمستشفياتنا» حين انتظرت ما يقارب الساعتين حتى أعلنت رفضي لمزيد من الانتظار ووقعت على قراري ورحلت وقلت في نفسي صدق من قال: (الزين ما يكمل)!
حين عدت أخبروني أخوتي وملامح الصدمة لم تفارقهم بعد، أن الجيران خرجوا ليشاهدوا ويسألوا عن الحدث، والبعض اكتفى بالمتابعة عبر نافذة منزله، آمنت حينها أن (اللقافة) ماركة عالمية لا عربية ولا سعودية.
الجدير بالذكر أن فاتورة 911 وصلت بعد شهر تقريباً تطالبنا بدفع 120 دولاراً على تلك الحفلة والدوشة التي سببها كوب الشاي وتلك هي عادتهم مع كل حدث!
أخيراً تقول لكم عمتي: «انتبهوا ترى منب في أمريكا وعليكم بالماء الفاتر ولله ما يجونكم 988 إلا لين برد الموقف والشاهي»!! ودمتم بخير.