بعد أن كتبتُ مرات عدة عن بعض الوعَّاظ الذين يتكسبون بالدين هنا وردتني رسالة هادئة ومؤدبة جداً من أحد طلاب العلم يسألني إن كان مثل هذا حكراً على المسلمين أم أنه سلوك شائع؟
إنه يا صديقي سلوك شائع في كل ثقافات الأرض بدءاً من دول العالم الثالث وانتهاءً بأمريكا، التي تهزها بين كل فينة وأخرى قصة من قصص «مرتزقة الدين».
إننا لا يمكن أن ننسى «تامي بيكر» وزوجها، اللذين جمعا الملايين، وبنيا القصور الفارهة، وركبا أفخم السيارات، وكان ذلك كله من تبرعات أتباعهما الذين تقول لهم «تامي»- بوجهها الذي يسيح منه الماكياج بألوانه المختلفة مختلطاً بدموعها التماسيحية - إنها رأت المسيح، وأخبرها بأنه قد شفع لهم وغُفرت ذنوبهم كلها! وبعد سنوات من الخداع والتضليل تم القبض عليها وعلى زوجها بتهم كثيرة، وحوكما، وتم سجنهما لمدد طويلة.
وقبل هذَيْن كانت القصة التي هزت أمريكا، وذلك عندما تم القبض على جيمي سويقارت - أحد أشهر الوعّاظ الإنجيليين - بصحبة مومس في أحد الفنادق المعزولة في فضيحة قاربت فضيحة «ووتر قيت» الشهيرة. ومَنْ ينسى الواعظ «جيري فالويل» الذي طلب من أتباع كنيسته أن يتبرعوا لإنشاء جامعة، ولما لم يتجاوبوا بالشكل المطلوب أخبرهم بأن الله - تعالى عز وجل - كلمه وأخبره بأنه سيغضب منهم إن لم يفعلوا، وما هي إلا فترة قصيرة حتى انهالت التبرعات من كل الأتباع، وخصوصاً الأثرياء منهم، وتم تأسيس الجامعة. نعم قد يكون المرء ثرياً حتى وإن لم يستخدم عقله الاستخدام الأمثل!
وهناك الواعظ الأشهر «بيلي قراهام» الذي كان الملهم الروحي لمعظم رؤساء أمريكا، وخصوصاً «آل بوش»؛ إذ كان بجانبهم يدعو لهم بالنصر قبل الحربَيْن اللتين خاضاها في العراق، وهو يملك مئات ملايين الدولارات، ويعيش سيرة الأباطرة، وقد ورث ابنه كل هذا الإرث المالي والوعظي العظيم.
وقبل مدة قصيرة تم القبض على واعظ شهير من ولاية جورجيا بتهمة الاختلاس والتزوير، وقد اتضح أنه يملك قصوراً في أكثر من مكان، ويركب وزوجته وأولاده أفخم السيارات، ويملك طائرتين خاصتين كان يوهم أتباعه أنهما مستأجرتان، وكان كل ذلك بالتأكيد من تبرعاتهم التي يجمعها منهم باستمرار؛ إذ اتضح أن معظمهم من الطبقة الفقيرة التي بالكاد تجد قوت يومها، ولكنها لا تتردد في التبرع لمثل هذا الواعظ الأفاك.
إن مثل هذا يحدث في كل بلدان العالم؛ فهناك قصص مشابهة في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وجنوب إفريقيا والبرازيل والهند والصين، ليس فقط لأتباع الدين المسيحي، ولكن لأتباع كل الديانات الأخرى؛ فلا يُعدم كل مجتمع من أن يكون فيه واعظ «ماهر في الاحتيال» وإنسان بسيط أرهقته مطالب الحياة ويتمسك بقشة أمل من أي أحد.المعادلة الصعبة هي أن واعظاً لديه موهبة الحديث أو الكتابة يجمع قصصاً تراثية عن الزهد بالدنيا والتقوى والعفاف ثم يبيعها لأتباعه المغيبين بمبالغ طائلة، وبعد ذلك يترك لهم الزهد ويتمتع بتلك الأموال كيفما يشاء! ألم تسمعوا عن وعَّاظ سرقوا جهد غيرهم في رابعة النهار عن طريق تأليف كتب كانت مؤلَّفة من قِبل غيرهم ثم طعموها بالوعظ وباعوها بأغلى الأثمان، وسكنوا أغلى القصور، وتفاخروا بذلك على الملأ. الغريب أن لدى الوعاظ في كل المجتمعات مقدرة عجيبة على استدرار الأموال بحجج لا تكاد تنتهي، وتتعجب أحياناً من أين تولد تلك الأفكار.
وختاماً، أقول لصديقي صاحب الرسالة، الذي يعمل في سلك التعليم، ويبدو أنه يملك ثقافة عالية، إن دوره يجب أن يكون في توعية طلابه من هؤلاء المتاجرين بالدين؛ فقد تكاثروا بشكل يفوق كل تصور، وأصبحوا يشكلون خطراً على وعي الناس، وخصوصاً النشء منهم، وهذا ما يقوم به مثقفو المجتمعات الأخرى؛ فهم لا يستطيعون منع الوعاظ من عرض بضاعتهم على الناس، ولكنهم يستطيعون توعية الناس، وهذا - في تقديري - كاف بدرجة كبيرة.
فاصلة:
«أمشي على مهل.. لكن إلى الأمام»..
أبراهام لينكولن.
amfarraj@hotmail.com