حين وصلنا «الولايات المتحدة» -في أوائل الثمانينيّات الميلادية- كانت «منظمة الطلبة العرب» قد حُلّت، ومجلة «الطليعة» قد توقفت، والنبض السياسي الشبابيّ -بمختلف مكوناته- قد خفت؛ فلم نُضعْ وقتًا في حوارات الأدلجة المسيسة، ولم تكن الأدلجة المؤسلمة قد بدأت بعد؛ فكنا شهودًا صامتين على مرحلةٍ اختفت وأخرى ستظهر، ورأينا -بتسارعٍ غريب- تحولات أصدقاء وزملاء من حيادية الانتماء إلى جاهزية التبدل، وفوجئنا بمن يمسّ سلوكَه الأخلاقيّ شيءٌ من الخلل منقلبًا على ذاته وصفاته، وكان ذلك إيذانًا بعبور التحولات بحر الظلمات نحو الغرب القصيّ.
* لم نعِ حينها -ووسائط الاتصال مع الوطن محصورة في الهاتف والرسائل- أن بني أبينا قد سبقوا، وأن التغيرات السريعة -كما تقرر نظريات علم الاجتماع - نتاجُ الأزمات الطارئة، وكنا حديثي عهدٍ بثورة الخميني وحركة جهيمان، ما يجعل مفهوم «التعجيل الثقافي» يركض لاهثًا دون أن يُبنى على تخطيطٍ أو رؤيةٍ أو إرادة، ويطالُ العادات والموروثات والتوجهات وحتى تصميم الملابس وطريقة المأكل، وهو ما حدث لأحد أصحابنا، وكان على قدر عالٍ من الوسامة والأناقة، فإذا به يدعُ خليلاته ويرتاد صلاة الجمعة، ثم يتخلى عن مظهره «الخواجاتي» ليرتدي ما سمي وقتها «لباس الصحابة» الذي يشبه لباس أشقائنا الأفغان.
* ظلت رحلةُ الأفكار وئيدةً لعدم وجود التقنية الناقلة، لكنها -إذ وصلت وواصلت- أحدثت هزاتٍ متواليةً غيرت النمط السائد، ولم تكن -كما ظنّ الأكثرون- سحابةَ صيف؛ فأمطرت سجالًا ومساجلين، وسلطةً وسلطويين، ونمت مراكزُ قوىً جديدةٌ تبوأت مكانًا عليّا.
* ثلاثة عقودٍ تآزرت فيها مخرجاتٌ ومدخلات رسخت في وجدان الناس قبل عقولهم؛ ما يعني أن متعجلي التغيير الثقافي في دورته الجديدة بحاجةٍ ليدركوا أن متوالية الأحداث السياسية الناشئة في المحيطات القريبة قادرةٌ على التأثير حين تستقر الخوارطُ الذهنيةُ بعد الصخب الشارعي، ومحاولات القفز لن تجدي غيرَ التوتر المجتمعي، على افتراض وقوفِ ذوي القرار متفرجين دون التدخل مع جماعةٍ أو ضد أخرى.
* ما يحدث الآن -في الساحة المحلية- قلقٌ ثقافي وإرباكٌ للبنية المجتمعية، وسيُحدث -على المدى- فارقًا بين ما أسسته العقودُ الأخيرة من مرتكزات وما يؤسسه الحراكُ الجديد سواها، وهو -في أُطُره- رسالةٌ للحرس القديم أن يتهيؤوا لمرحلة قادمة تنزِع منهم بعض المفاتيح؛ والمفكرون منهم واعون باتجاه الرياح ما جعلهم يغيرون في لغتهم وخطابهم ولم يعبؤوا بما وُصموا به من تكتيك براغماتي انتظارًا لأدوارٍ أكبر.
* هنا يجيء دور التوازنيين في الجانبين سعيًا للتأثير في توجيه التغيير الثقافي والمجتمعي نحو التوفيق والتوافق بما لا يحدث أخدودًا غير مهيأ بمعابر؛ فلا قيمة لأنْ ننعتق من سلطة جبرية لأخرى مثيلة لها، ولن يجدي التباكي على موروثات تَغرُب أو تنويرٍ يُستلب تأخيرًا أو تقديمًا.
* التغيير -في بعديه الثقافي والاجتماعي- حتميٌّ، ولو عاد بنا الزمن ثلاثين عامًا فلن نعجبَ لو خلع صديقنا جبته وعمامته واستبدل بهما بدلته «المودرن» وعاد سيرته الأولى؛ فهل لا مناص من نهجين متصادمين؟ لا نظن إنْ تحكم العقلاء فسبقوا الجماهير ولم يتبعوهم.
* التاريخ قراءة صحيحة.
ibrturkia@gmail.com