يُروى عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: (ربُّوا أبناءكم لزمانهم، فإنهم قد خلقوا لزمان غير زمانكم). وهذه لفتة حكيمة، تدل على إدراكه حقيقة تطور الأجيال، وتغيرها من جيل إلى جيل؛ وهي من زاوية أخرى تدل على فهمٍ عميق للتغيرات الاجتماعية، على الرغم من أن الثقافة العربية كانت وما زالت للأسف، لا تهتم بهذه المتغيرات؛ فما هو صالح للسلف هو بالضرورة صالح للخلف، لذلك يُربون أولادهم وكأن الزمن في حياة الإنسان عامل ثابت لا يتغير.
ومثل هذه المشكلة قد تأخذ في تجلياتها توجهاً آخر؛ فحينما يكون الأب بالنسبة للأبناء (قدوة)؛ كأن يكون كبيراً في زمنه، أو عظيماً، أو ناجحاً في حياته، تجد أن أبناءه - بوعي أو دونما وعي - يتقمصونه، ويتعاملون مع تجربته، ويرددون أقواله، ويحاكون تصرفاته، وكأنَّ ما كان صالحاً لزمان والدهم سيكون صالحاً لزمانهم؛ على الرغم من أن زمان الأب يختلف، وتختلف الظروف التي تكتنفه؛ أي أن الأب لو كان حياً، ومرت عليه هذه المتغيرات، بمعطياتها الجديدة، فليس بالضرورة أنْ يتصرف تجاهها نفس التصرفات التي تصرفها بالأمس؛ فالرجل الناجح والمتفوق هو الذي يقرأ عصره، ومتطلبات النجاح فيه، ثم يجعل قراراته تتواءم مع العصر من أجل أن يُحقق أهدافه؛ فلا يمكن أن يكون سبب النجاح في زمان ما صالحاً بالضرورة لكل زمان كما يتوهم البعض، أو هكذا يتصرفون.
ولعل هذه النقطة بالذات هي مشكلة الرئيس بشار الأسد وأخيه ماهر، وربما بقية من يُسمون بالحرس القديم في سورية. نجح الأب حافظ الأسد خلال حكمه لسورية بالحديد والنار؛ فكل من فتح فاه واعترض سُحِقَ سحقاً كما يقول تاريخه؛ شخصية الأب (الطاغية)، وتجربته في الحكم، وتعامله مع الأحداث، كانت حاضرة وبقوة في أي قرار يتخذه الأبناء؛ وهي التي كانت على ما يبدو تحكم تعاملهم مع الأزمة التي تمر بسورية اليوم. غير أن الرئيس حافظ الأسد معروف بقدرته الاستثنائية على قراءة الأحداث بعين ثاقبة، واتخاذ ما يناسبها من قرارات من شأنها الحفاظ على بقاء خيوط اللعبة في يديه، على الرغم من التحديات المتشعبة والمعقدة التي مرت به أثناء حكمه داخلياً وخارجياً وقدرته على تجاوزها. فمن أجل أن تقتدي به، يجب أن تقتدي ليس بقراراته، فتحاول أن تستعيدها غير آبه بتغيّر الزمان والظروف، وإنما أن تقتدي (بمنهجه)، وقدرته على اتخاذ القرار المناسب حسب شروط النجاح في زمانه. وهذا ما تنبه إليه أحد المحللين السياسيين، وهو يحاول أن يتلمس سبب تخبّط بشار وأخيه ماهر في التعامل مع الأزمة التي تمر بها سورية، فأرجع السبب إلى أن الرئيس حافظ الأسد ما زال (حياً) في ذهن أبنائه، لكنه ينظر إلى الأحداث بعين زمانه لا بعين زماننا، لذلك يتخذ بشأنها قرارات صالحة لزمانه، وليس لزماننا. وهذا ربما السبب في تخبط قرارات بشار وأخيه ماهر؛ فهل لو مرّت على الرئيس حافظ الأسد أحداث حماه والإخوان المسلمين - مثلاً - والظروف كما هي عليه اليوم، سيتعامل معها مثلما تعامل معها قبل ثلاثين سنة؟.. أكاد أجزم أنه لن يفعل، فهو سياسي داهية، وثاقب البصيرة، ويعرف من أين تؤكل الكتف، وبراغماتي محنك؛ ومن يمتلك هذه المؤهلات سيدرك حتماً أن ظروف الأمس تختلف عن ظروف اليوم، ولن يقع في الأخطاء القاتلة التي وقع فيها من ورثوه في السلطة.
مشكلة الأب الناجح بالنسبة لأبنائه أنه لا يموت، فيجري (تحنيطه)، ومحاكاته، واستعادة مُخرجات تعاملاته، لا منهجه، في كل شاردة وورادة، دون أن يعي الأبناء اختلاف ظروف زمنهم عن ظروف وزمن الأب؛ وهنا تكمن مشكلة بشار الأسد وأخيه ماهر على ما يبدو.
إلى اللقاء.