سيل النحا ما ينعدل عن مجاريه
لو يضرب السندا يكود اِعلِيانِه
وسيل النحا: هو السيل الشديد القوي، و»النحا» في الأصل: هوى القلب، قال الشاعر:
على نحايا القلب يمشن الأقدام
رجلي تسير وشف بالي يقوده
ومعنى يضرب: يتجه إلى، والسندا: المكان المرتفع من الأرض كالرابية، يكود: يصعب، اعليانه: صعوده. والمعنى أن السيل الشديد المنحدر يصعب صرفه وتوجيهه عن مساره إلى مكان مرتفع. قال أبوتمام:
لا تنكري عطَل الكريم من الغنى
السيل حربٌ للمكان العالي
والشطر الأول من بيتنا هذا صار مثلا سائرا، يُضرب لصعوبة صرف النفس عن هواها. وابن سبيّل أحد أعظم شعراء النبط على مر التاريخ، وهو زعيم الشعر النبطي الرومنسي بلا منازع، وعلى الرغم من أنه عاش في بيئة صحراوية صعبة عريقة مغرقة في البداوة.
وفي عصر مضطرب في كل شيء، إلا أنه فجّر ينابيع الغزل العذري بأسلوبه السلس وشاعريته المتفوقة، وروحه الجميلة.
ومن يقرأ سيرته وشعره يدرك للوهلة الأولى أنه كان -رحمه الله- شخصية تملك كاريزما عالية، فهو آسر لخيال كل ذي قلب تتلاعب به رياح الهوى، ومثير لإعجاب كل من يهوى الرومنسية والغزل البدوي الدامي.
وابن سبيّل علامة فارقة في هذا المجال، فهو استثناء في قاعدة مطّردة تقول إن أجمل شعر الغزل الرومنسي بدوي صرف، ولذلك قالوا في المثل «عشق بدوي» أي عشق صادق إما أن ينتهي بتحقيق المراد أو بالوفاة من تباريح الهوى.
وابن سبيّل ليس بدويا لكنه خالط البدو في بلده «نِفي» مخالطة جعلته يُلمُّ بعاداتهم وتقاليدهم ولهجاتهم وآدابهم، وقد ظهرت آثار هذا التأثر في شعره وخياله ولغته أيضا..
ونعود إلى البيت الذي نسيح فيه اليوم.. فقد أراد ابن سبيّل أن يبيّن أنه لا يستطيع الفكاك من هواه ولو أراد، فكأن حبه سيل جارف لا يستطيع التحكم فيه وتوجيهه على ما يريد.
وكما جاء في البيت الذي استشهدنا به قبل قليل «على نحايا القلب يمشن الأقدام» وهذه حقيقة يجأر بها العشاق، وصرخة يُطلقونها في وجوه لائميهم. وقد وطّأ الشاعر لهذا البيت ببيت سبقه هو:
المهتوي طرد المها ما يعنّيه
كنّه على زل العجم باعديانه
ومعنى يعنّيه: يصعب عليه أو يُتعبه، زل العجم: أفخر أنواع السجاد، باعديانه: بعدْوِه وجريِه، ومعنى البيت واضح.
وعبارة (المهتوي طرد الهوى ما يعنّيه) سارت مسير المثل أيضا، وأكثر من تردادها الشعراء للتعبير عن هذا المعنى، وهناك مثل شعبي في نجد يؤدي نفس المعنى الذي تؤديه هذه العبارة وهو قولهم «المهتوي يقطع المستوي» والمستوي كثبان رملية وعرة معروفة في وسط نجد بين الغاط والقصيم والزلفي. وفي هذا المعنى قال المرحوم فهد العلوش في ألفيته الغزلية الشهيرة:
الذال ذالي عنك يازين مده
قامت تزايد بالضمير المودة
المهتوي ماكل شيٍ يرده
حتى ايش لو دونه دروب صعيبات
وفي المقابل الكاره لا يمكن حمله على فعل ما لا يريد، قال الشاعر:
اللي على غير الهوى كود بخزام
مثل الذي يصعد بعالي سنوده
والخزام: الزمام الذي تقاد به الدابة، والمعنى أنه لا يفعل ما لا يريد إلا مُجْبرًا، فحاله كحال من يصعد الجبال لا يصعدها إلا ببطء شديد. والإقبال على المرغوب، والتثاقل في أداء المكروه، طبع وفطرة إنسانية، مرتبطة بما يُسمى في علم النفس بـ»قانون الأثر».