منذ أن أصبح هذا التعبير المثير لاشمئزاز ذوي العقول السليمة يتردّد في مساحات أمتنا المبتلاة بتربُّع شخصيات على كراسي السلطة في أوطانها- مع أنها ليس لها من صفات الزعامة الوطنية الجديرة بالتقدير قليل ولا كثير
- وهذه الأُمَّة تنحدر بسرعة إلى الهاوية. وحديث كاتب هذه السطور في هذه المقالة يكاد يكون مركَّزاً على فترة عاشها وأحداث عايشها. لقد كان هناك رجال لهم قامات عالية، وأقدام راسخة، في قيادات الحركات الوطنية في بلدانهم، كما حدث - مثلاً - في العراق وسوريا وليبيا حتى تحررت تلك الأوطان من الاستعمار الجاثم على صدور شعوبها، ولم يسمع ترديد الجماهير لمثل التعبير الذي وُضِع عنواناً للمقالة. بل كانت الهتافات معبرة عن الفداء للأوطان.. للأوطان وحدها.. لا لشخصية بعينها مهما كان الدور الذي قامت به كبيراً في ميدان ذلك التحرير الوطني. ففي سوريا - مثلاً - كان من قادة حركة استقلالها الوطني من المستعمر الغربي أبطال مثل يوسف العظمة، وهاشم الأتاسي، وفارس الخوري، وصالح العلي، وسلطان الأطرش، وشكري القويلي، وصبري العسلي. هل سمعت خلال نضالهم الوطني حناجر تهتف في الساحات: بالروح والدم نفديك يا زعيم؟ أولئك القادة كان منهم من قضى نحبه شهيداً سقى بدمه تراب الوطن، وكان منهم من أبقاه الله حتى كملت مسيرة نضاله بابتعاده عن دفّة الحُكْم وفق ما يقتضيه دستور الوطن. على أنه لم يعهد من أي واحد منهم أنه استغل منصبه لمصلحة ذاتية، استفراداً بالسلطة أو تحايلاً لأخذ شيء من المال العام للدولة. مضى جميع أولئك القادة إلى الدار الآخرة، ومعهم -والحديث عن العمل الوطني - كنز لا يفنى مخلّد لذكرهم في تاريخ أمتنا. وكنت قد كتبت قصيدة من أبياتها:
دمشق يا ألقَ التاريخ هأنذا
قدمتُ إذ لوّحت لي منك أردانُ
أنتِ الحضارة إشعاعاً ومنطلقاً
وأنتِ منبت أمجادٍ وبستان
وأنتِ يا قلعة الأحرار أغنية
في ميسلون لها وقع وألحان
دم الشهيد رواها نخوة وفدى
والتُّرب تفديه أرواح وأبدان
وكان يوسف العظمة في طليعة من استُشهد في معركة ميسلون كما هو معروف.
يدرك كاتب هذه السطور أن ذاكرته ليست قوية. لكن مما يعيه كل الوعي أن مثل ذلك التعبير المثير للاشمئزاز قد راح يتردّد في ساحات العراق، قبل اثنين وخمسين عاماً: «ماكو زعيم إلا كريم». وتوالى انتشار سرطان النفاق في جِسْم الأُمَّة في بلدان عربية مختلفة. بعضه يرتدي لبوس الدين، وبعضه الآخر يرتدي لبوس القومية والوطنية. وبلغ تردّي أمور الأُمَّة إلى درجة أن رُدِّد ذلك التعبير المثير للاشمئزاز مُوجَّهاً إلى متسلِّط ظَلَّ اثنين وأربعين عاماً جاثماً على صدر شعبه. متسلِّط يصعب على المرء تعداد جرائمه في حق شعبه وأُمَّته.
ولم تقتصر جرائم ذلك المتسلِّط في حق شعبه على تبذير أمواله العامة على شهواته وشهوات أفراد أسرته وأقاربه، أو إنفاقها على مشروعات مختبرات ذات صبغة عسكرية، تم شحنها بكل محتوياتها إلى أمريكا، أو إتلافها في ارتكاب مؤامرات وجرائم ضد الشعوب الأخرى، بل تعدَّى ذلك إلى ارتكاب مجازر شنيعة، بينها تلك التي ارتكبها ضد معارضيه الذين أطلق عليهم، في فترة من الفترات، الكلاب الضالة، وراحت أجهزة إعلامه المرئية تعرض قبيل الإفطار كل يوم من أيام أحد شهور رمضان عشرات منهم معلَّقين في المشانق، وتلك المجزرة التي راح ضحيتها أكثر من ألف ومئتي إنسان في سجن من سجون نظامه التعسفي، وإهداره لحق الأُسَر، التي أُصيب أطفالها بمرض نقص المناعة نتيجة ارتكاب من قاموا، وقمن، بحقنهم دماً سبَّب ذلك.أما جرائم ذلك المتسلِّط الجاثم على صدر شعبه اثنين وأربعين عاماً ضد أُمَّته فعديدة. ولو لم يكن منها إلا موقفه ضد بعض النصوص الدينية، أو تغييره التاريخ الهجري، الذي رضيته الأُمَّة المسلمة عبر أكثر من أربعة قرون، إلى التاريخ بوفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكفى.
لقد كان مما قلته في مقالة الأسبوع الماضي: إن المتحكمين في ليبيا واليمن وسوريا لم يكفهم تحكّمهم بأمور شعوبهم عقوداً من الزمن، تسلَّطوا خلالها ما طاب لهم التسلُّط، ونهبوا من ثروات تلك الشعوب ما راق لهم نهبه، بل أصرُّوا واستكبروا متمسِّكين بالسلطة مهما كانت نتائج هذا التمسك.. ولم يبادروا باتخاذ خطوات جريئة يجنبون بها أوطانهم العواقب السيئة التي أصبحت عليها الآن. وإني لا أكاد أعتقد أن أولئك المتحكِّمين ينتهي تحكمهم، لكن ثمن نهاية هذا التحكم مرتفع غاية الارتفاع. أما مَنْ هم السبب في اضطرار الشعوب إلى دفع الثمن فلن يكون سِجل تاريخهم إلا ملطَّخاً بما يشينه.