أتجول هذه الأيام في واحات كتابين جميلين أعيش بهما في مساحات ضوء لا حدود لها من تاريخنا الإسلامي العريق، وأجد فيهما من الأُنس بذلك التاريخ ما يخفّف بعض ما تسببه معظم أحداث عصرنا هذا وحقيبتنا هذه من ألمٍ وحسرة.
أحد الكتابين عنوانه «الأسماء والمصاهرات بين أهل البيت والصحابة رضي الله عنهم» لمؤلفه السيد بن أحمد بن إبراهيم وهو كتاب أصدرته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت عن مكتب الشؤون الفنية في الوزارة عام 1428هـ والآخر عنوانه «بنات الصحابة» لمؤلفه أحمد خليل جمعة، وهو كتاب صدرت طبعته الأولى في بيروت عام 1420هـ.
من أهم ما يميز الكتابين ما بذله مؤلفاهما من التوثيق والتحقيق، والطرح الموضوعي القائم على الدليل، والرجوع إلى المصادر الرئيسة والمراجع المعتمدة.
كتاب الأسماء والمصاهرات جمع عدداً غير قليل من التراجم لرجال ونساء من الصحابة رضي الله عنهم من آل البيت وغيرهم موضحاً التلاحم القوي بينهم جميعاً، وهو تلاحم قائم على محبة وأخوة لا مجال فيها لحقد أو دَغَل أو غش، فيه ردٌّ قوي على أولئك الذين يروّجون -بالباطل- قصصاً موضوعة مصنوعة من العداء بين أهل البيت وبعض كبار الصحابة من غيرهم رضي الله عنهم جميعاً. ولا بأس أن أشير هنا إلى أن الصحابة جميعاً رضي الله عنهم تتحقق لهم المكانة الجليلة التي رفع الله إليها مقامهم، ورعاها الرسول صلى الله عليه وسلم الرعاية كلها، سواء أكانوا من أهل بيته الكرام أم من غيرهم، مع أن لأهل بيته الذين آمنوا به وصدّقوه من الإجلال والتقدير ما لا يختلف عليه أحد من المسلمين الذين سلمت عقائدهم من الانحراف، ولهذا فأنا أميل إلى ما سمعته ذات يوم من فضيلة الشيخ محمد الحسن الددّو من وجوب النظر إلى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بشمولية لا تفرق بينهم وتجعلهم -في أذهان الناس- فريقين مختلفين، وبإنصافٍ لهم يعطي كل واحدٍ منهم حقّه من الفضل كما أعطاه إياه رسولنا عليه الصلاة والسلام دون جنوح إلى المبالغات القائمة على الأباطيل التي تهيّج العواطف، وتغيّب العقل.
تأمل معي -قارئي الكريم- هذا الكلام الذي رواه الفضل بن مرزوق عن «الحسن بن الحسن» مخاطباً به رجلاً قال للحسن كلاماً يغلو به في أهل البيت رضي الله عنهم، قال له: ويحكم، أحِبّونا لله- إن أطعنا الله وإن عصينا الله فأبغضونا، فلو كان الله نافعاً أحداً بقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير طاعة لنفع بذلك أباه وأمه، قولوا فينا الحق، فإنه أنفع فيما تريدون، ونحن نرضى به منكم.
ثم انظر إلى هذا الصفاء، وهذه البصيرة، وهذه الرؤية المنسجمة مع العقيدة الصحيحة، وهذا الفهم الصحيح لكتاب الله وسنة رسوله فهذا الحسن من أحفاد أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم ولو كانت المسألة متعلقة بهوى النفس والمصلحة الشخصية لفرح بالغلو في حبهم، وشجّع عليه، ها هو ذا يعلنها بصرامة لا مداراة فيها ولا مجاراة بأن الغلوّ في حبهم لا يجوز، وأن قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقدم لهم شيئاً إلا إذا كانوا متبعين له، مؤمنين بما جاء به، ولو كانت القرابة وحدها نافعة لنفعت أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفعت أبا لهب الذي حكم الله سبحانه وتعالى عليه بدخول النار في آياتٍ من كتابه الكريم تتلى إلى يوم القيامة مع أنه عمّ رسول الله عليه الصلاة والسلام.ثم تأمل معي -قارئي الكريم- هذا القول الذي رواه ابن العماد الحنبلي في كتابه شذرات الذهب عن الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- حينما سأله رجل قائلاً: أيهما أفضل، معاوية بن أبي سفيان أو عمر بن عبدالعزيز؟ فقال: «الغبار لحق بأنفِ جواد معاوية بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمر بن عبدالعزيز» وانظر إلى هذا الوضوح والصفاء، وإلى هذا الفهم الصحيح الذي لا يتجنّى على أهل الفضل الذين ثبت فضلهم في كتابٍ أو سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن الكتابين المذكورين في صدر هذه المقالة حافلان بمثل هذه الأقوال التي تزيل الغبش عن عيون الواهمين، وتسد الباب أمام أباطيل المرجفين -جزى الله مؤلفيْهما على جهدهما خيراً-.
إشارة:
مراكب أهل الهوى أُتْخِمَتْ
نزولاً ومركبنا صاعدُ