كانت الحوارات التي انبعثت في الآونة الأخيرة حول اللغة العربية مدعاة لبحث العديد من الآفاق الجديدة حول مستقبل العربية.
لقد طرقت تلك الحوارات قضايا مهمة من قبيل: أهمية اللغة العربية، ووجوب تحديث أساليب تعليمها، والإقدام أو التريث في إرساء قواعد جديدة تراعي تطورات المجتمعات.. وغيرها من الموضوعات التي هي من قديم - جديد نقاشات أهل العربية.
وعلى الرغم من أهمية تلك الحوارات بوصفها ممثلاً لأصالة المنتمين العرب في الدفاع عن هويتهم اللغوية إلا أنني أرى أنه من الأهمية بمكان أن يأخذ الموضوع أفقًا أكثر سعة من نقاشٍ منحصرٍ في أهميتها وتجديدها وتجويدها.
ماذا لو تم طرح الموضوع بجرأة أكبر، وحماسة أكثر؛ تتمثل في محاولة رسم إستراتيجية تفعيل الوعي بالعربية مع الوعي بالهوية، ونسج خارطة عملية تستهدف (التبشير) بالعربية في البلدان الأعجمية التي تتلهف للحديث باللسان العربي الفصيح. إن هذه الإستراتيجية تحتاج إلى تبني سياسي كامل يدفعها نحو الآفاق العالمية بالشكل الصحيح، وليس هناك من هو أجدر من المملكة العربية السعودية بتبني هذا المشروع بوصفها مهد العربية ومأزر الإسلام.
وإن الثقل العربي والإسلامي للمملكة ليؤهلها للاضطلاع بدور ريادي في نشر العربية في أصقاع الأرض لأنها بذلك تخدم المصالح الخاصة التي من خلالها يصير دور المملكة فاعلاً في الشعوب المستهدفة بالتعليم، وتخدم المصلحة العامة في نشر العربية بوصفه واجباً استراتيجياً يستجيب لمتطلبات المرحلة المقبلة.
وليس في هذا الدور من حرج سياسي؛ فكل الدول التي تمتلك رؤية لابد أن تعمل على تفعيلها من خلال أذرعتها التي تساعد على نشر تلك الرؤية والترويج لها. وقد كانت الدول القوية - ولا تزال - تحاول جاهدة نشر لغتها و(غزو) الآخرين بها لأنها السبيل الأمثل للدخول في عمق المجتمعات الأخرى، وما ذلك إلا لأن أهلها يؤمنون بأن اللغة فكر قبل أن تكون لسانًا.
ولقد يصلح أن أستشهد بعبارة نقلتها الكاتبة «آنيا لومبا» في كتابها «في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية» ص92 إذ تنقل عن شخص يدعى «توماس ماكولي» كان مهندس الثقافة الإنجليزية في الهند وقد نشر مقالة بعنوان: «مذكرة حول الثقافة الهندية» كتبها عام 1835م يقول:
«إن الثقافة الإنجليزية ستُذوِّب السكان الأصليين الذين كانوا هنديين دماً ولوناً ليصبحوا بريطانيين في الذوق والآراء والأخلاق والفكر هؤلاء الناس سيشكلون الطبقة التي ستحمي في الحقيقة المصالح البريطانية وتساعد البريطانيين في حكم أرض شاسعة.. صعبة المراس».
إن الهدف الاستعماري من نشر اللغة هو هدف مشروع ودارج في العرف السياسي فلم لا تكون المملكة حاملة لهذا البعد من أجل أجندتها المشروعة؟ وإنه مثلما يحق لنا أن نصدر إلى العالم النفط والغاز والسلع الإستراتيجية الأخرى فإنه من حقنا أن نصدر ثقافتنا ولغتنا وهويتنا بوصفها سلعة إستراتيجية أيضًا. وإن الوضع السياسي والاقتصادي والديني الذي تعيشه المملكة ليختصر عليها طريقاً طويلاً اجتهدت في سلوكه دولٌ أخرى حاولت تصدير فلسفتها إلى العالم وفشلت لأنها لا تملك تلك المقومات الضخمة التي نمتلكها نحن.
إن إنشاء معاهد لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها في بلدان العالم ليخدم هذا الهدف الاستراتيجي ويجيب عليه، ولعل المتابع لواقع الشعوب الأعجمية خاصة في دول الصين وروسيا والهند والشرق الأقصى وجنوب وغرب أفريقيا ليجد اتجاهاً جارفاً وحماساً كبيراً لتعلم اللغة العربية وآدابها من منطلقات متعددة يأتي في مقدمتها المنطلق الديني، ولعل من مؤشرات تلك الحماسة طلبات المنح المتزايدة التي تفد إلى الجامعات السعودية من قبل الطلاب الذين يريدون تعلم العربية في مهدها.
كما أن مؤشرات الحماسة لتعلم العربية أن من زار بلدان الشرق يجد فيها من الشوق لإتقان العربية أكثر مما يجده لدى أبناء العربية أنفسهم!! وعلى الذين أصابهم الإحباط من تعليم أبناء العرب لغتهم أن يزور تلك البلاد كإندونيسيا والهند وروسيا وسيرى طلاباً يتدفقون شوقًا لسماع النطق العربي الصحيح من الشخص العربي الفصيح تشبهها حماسة الذين يتلقون اللغة الإنجليزية من أفواه الأمريكان.
ولا أزال أذكر حين كنت أنا وبعض الزملاء مشاركين في مؤتمر عن اللغة العربية بإندونيسيا كيف يتجمهر الطلاب الإندونيسيون حولنا يتلقفون الكلمات العربية من أفواهنا كما يتلقفها علماء اللغة قديمًا من أفواه الأعراب، ويطلبون التصوير معنا كما يطلبه المعجبون بمشاهير كرة القدم!!
إنني من هذا المنطلق لأدعو إلى بناء إستراتيجية واضحة تتبنى نشر العربية في مختلف بلدان العالم تشترك في صناعة هذه الإستراتيجية عدة جهات، منها:
1 - وزارة التعليم العالي بوصفها جهة تمتلك خبرة واسعة في مجال تعليم غير العرب.
2 - مع وزارة الخارجية بوصفها الجهة التي تملك ذراعاً ممتدة في كل دول العالم.
3 - مع معهد خادم الحرمين الشريفين للغة العربية بوصفه مؤسسة علمية تعنى بالعربية وشؤونها.
وذلك لكي تتعاضد جهود هذه الجهات فيتم رسم إستراتيجية تستهدف نشر العربية لدى الشعوب القابلة للتفاعل مع مثل هذا المشروع كمرحلة أولى، ثم يتم توسيع ذلك لاحقًا ليشمل كل دولة فيها ملحقية ثقافية سعودية. وأجزم أن في هذا خدمة كبيرة للعربية وخدمة كبيرة لنشر رسالة المملكة القائمة على التوسط والاعتدال.
-جامعة القصيم