فجأة انفـجـرت الانتفاضات الشعبية على أنظمتها في بـعـض الأقطـار العربـيـة ليقف العالم كله في ذهول، حيث سقط النظام التونسي ثم لحقه النظام المصري ثم تلاحقت الانتفاضات في أكثر من قطر عربي، فهل من السهل فهم ما جرى ولماذا ونحن لا زلنا في أتون الخطب؟
لقد حاول كثير من المحللين والمفكرين تفسير ما يجري لولا أن المفاجآت تتوالى فتجعل خبر الساعة صفحة من الماضي، حتى أن الدول بما تملكه من إمكانات استخباراتيه ومعلومات يمكن دراستها والتنبؤ حيالها لم تتمكن كثير منها من معرفة الموقف الصحيح أو التوقيت المناسب لاتخاذ الموقف، وشاهدنا كيف أن حلف النيتو يغرق اليوم في معمعة جماهيرية القذافي العظمى، ودول الخليج تبذل كل جهدها لإطفاء نار اليمن، وإيران تبحث في الرماد بحثا عن نار وتركيا تفقد سياسة التصفير التي ابتدعها الدكتور اوغلو، وحتى كيان إسرائيل وجد نفسه أمام أمّة توحدها لحظة استيقاظ بعد عقود من السبات المهين، في حين تكتشف الولايات المتحدة الأمريكية طامة المغامرات التي ورّط بها بوش الأصغر بلاده حتى جعلها أسدا دون شوارب، بينما اتخذت روسيا سياسة التمهل والتريث في تقليب صفحة الأحداث لعلها ترى بصيص موثوق يدلها على اتجاه المسار حتى باتت اليوم درعا للديكتاتوريات ضد الشعوب في مجلس الأمن تدعمها الصين الشعبية ولكن بدون صوت أو صورة درءا للحرج خارجيا وخشية من العدوى في الداخل.
ولعل العامل الأهم والخطير اليوم والذي ربما يخفى على الكثيرين خارج المنطقة هو في تحول هذه الانتفاضات العربية إلى منافسة حامية الوطيس بين الشعوب العربية في القدرة على تغيير الأنظمة إلى درجة تجعل كل شعب ينتفض ضد نظامه يتجه وبسرعة إلى خط اللاعوده وكأنه تحاشيا من العار بعرف القبيلة، مما جعل اليمن وليبيا وسوريا تدخل فعليا في حرب إرادة مع أنظمتها التي بكل أسف انكشف فشلها الحقيقي في بناء الدولة بعد عقود طويلة من الحكم، ثم إن العامل الثاني هو في محاولة بعض الجمهوريات العربية من مخالفة التاريخ بتأسيس نظم جمهوريات التوريث في عصر تقدم فيه وعي الشعب العربي وأدرك أن انقلابات الستينات والسبعينات لم تكن إلا سطو مسلح على مقدرات الشعوب لصالح أفكار مستوردة وأيدلوجيات معلبة، وما أن استقرت لها الأمور حتى صارت تبحث عن مجد خاص لها بعيدا عن بناء الدولة وتأمين حقوق الشعب وتطلعاته حين تجاهلت بناء الأوطان وتعالت على شعوبها في وعيه وحاجاته وحكمته بالحديد والنار بما يخالف ثقافته ومعتقداته، ولقد كان في تحويل الولاء لله إلى الوطن ثم إلى الرئيس مؤشراً لتضخم الذات الأنانية الحاكمة لتخلق حالة الانفصام بين الشعب والقيادة وتحول الوطن إلى أسياد وعبيد، وبهذه الرؤية لا يمكن الاندهاش من ما حدث بحكم أنه أمر متوقع حسب منطقية التاريخ ولكن الخطر غير المتوقع هو أن تهب هذه الانتفاضات دون توجيه أو قيادة مما يجعلها ثورة شعوب ضد واقع مهين لا تنفع معه تنازلات ولا توسطات، وكأنما ندخل تاريخا جديدا ومن لا يتماشى ويتجانس معه هو بمثابة عبء يعاكس حركته، أي أننا أمام واقع جديد يتشكل.
ولقد كان جرس تونس ثم عزف مصر كافيا بما فيه الكفاية ليستيقظ الآخرين ويستوعبوا حركة التاريخ ومنطقه، لكنهم بكل أسف ادخلوا أوطانهم اليوم في جحيم الفوضى والتدخل الأجنبي، حتى بدا لبعض المحللين والمفكرين أن فوضى كونداليزا الخلاقه هي العنوان الحقيقي لما يحدث اليوم، وهذا إمعانا في الخطأ واستمرارية في الحرث أو السباحة في الهواء والفراغ بحثا عن وجود مصطنع ينوب عن التاريخ والحقيقة، ذلك أن العرب أمّة حيّة لا تعيش خارج التاريخ بل إنها صاحبة تاريخ وحضارة قادت وحركت التاريخ وتأثرت بحراكه كأي أمّة عاركته، ولأن التاريخ لا يصنع الأجيال بل هي التي تصنعه وتسطر أمجاده، فقد خرج العرب من رحى الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال ثم التأسيس والبناء ولما اشتد العود وقوي الساعد تحرك الجيل الصاعد ليصحح المسار الخاطئ لدى من أخطأ المسار بتضليل شعبه فضل هو واستيقظ الشعب.
hassam-alyemni@hotmail.com