من يتتبع كتاب (حركة التغريب في المملكة العربية السعودية) يجد أن الباحث غير دقيق في إطلاق أحكامه على الناس وعلى كثير من قضايا المجتمع السعودي وبخاصة أنه يفتقد التأصيل العلمي والمراجع الأصيلة التي يستقي منها أفكاره حتى تحولت الرسالة إلى أشبه بمقال في صحيفة يعبر عن رؤيته كاتبه فضلا عن تحليله -وبمزاجه- المعطيات والنصوص.
وقد أصدر حكمه المسبق عليها ومن ذلك أنه ذكر أن سبب نشوء حزب البعث في السعودية اضطهاد شركات النفط الأجنبية للعمال السعوديين ص 44 والأدلة كثيرة ليس المقام مقام سردها، والأدهى من ذلك أنه يرجع بدايات حركة التغريب إلى الدولة السعودية الثالثة 1319هـ وعهد الملك عبد العزيز ص 58 في صورة تؤكد الجهل التام بما قامت عليه هذه الدولة من إستراتيجية عربية ورؤية إسلامية ورجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وتحدث عن نوافذ التغريب في عهد الملك عبد العزيز وهي:
1- الحجاز وتأكيد انفتاحه وتغريبه باعتماده على مراجع تخلو من موضوعية لأنها كتبت بهوى غير وطني ومنها كتاب أمين المميز سفير العراق آنذاك حينما كان ملكيا (1373-1375)، في كتابه المملكة العربية السعودية كما عرفتها، وكتاب عبد العزيز الرشيد الكويتي، ومذكرات الأميرة بديعة بنت الملك علي بن الحسين في مذكراتها (مذكرات وريثة العرش) وما نشره بيركهارت في رحلاته للجزيرة العربية وما بثه أغسطس رالي في كتابه (مسيحيون في مكة) ونص على مظاهر التغريب في مظهرها العملي المتمثل بعمل المرأة في المحلات التجارية وارتياد النساء المقاهي وتعاطيهن للشيشة وأما المظهر الثقافي والعلمي فقد تناول فيه محمد حسن عواد وطاهر زمخشري واتهمهم بالتغريب في صورة لا تحتمل كل هذا السبر في دهاليز النوايا.
2- أرامكو ووصفها بأوصاف تغريبية لا تليق متجاهلا الخدمات التي قدمتها هذه الشركة في التطوير والبناء والنهضة بالاقتصاد السعودي آنذاك، ولن أفصل في النافذتين (3- الأسر الثرية 4- الابتعاث) لأن هذا يتناقض مع حديثه عن التزام المجتمع السعودي بالإسلام بجميع فئاته، ويتناقض مع جهود تلك الأسر في خدمة الإسلام والمسلمين ...
والكارثة أنه ذكر أن حركة التغريب في وطننا العزيز مرت بمراحل وكلها في عهد الأمام المجدد الملك عبد العزيز الذي خدم السنة وحارب البدعة ونشر الإسلام الصحيح ورعى الدعوة حق الرعاية، ولا يستحق منا نحن أبناء وأحفاد تلك المرحلة أن نتجاهل ما قاموا به وما ضحوا من أجله، وكل تفاصيلها تشهد أن التشويه في حقهم جريمة لا تغتفر، وهي (مرحلة الأولى مرحلة النشأة 1340 هـ) و(المرحلة الثانية مرحلة التنظيم 1350 هـ) و(المرحلة الثالثة مرحلة المؤسسات 1380) واتهم فيها المؤسسات الحكومية والأهلية ص65، وفي الحقيقة تبقى كل المظاهر التي تحدث عنها الباحث في التغريب مسائل تحدث عنها فقهاء الإسلام وعلماء الأمة ولا يمكن أن نصفهم بأنهم تغريبيون لأنهم أفتوا واجتهدوا وعرضوا وناقشوا وردوا ورجحوا وهم لم يعرفوا الغرب آنذاك فكان يجب أن توضع المسائل في سياقها وعدم تعميم ما كان من ذنوب على مجتمعنا الإسلامي بعامة وبخاصة أنه لم يسلم منها مجتمع إسلامي ابتداء من عهود النبوة، ومن أشد الأحكام التي لم تكن موضوعية حكمه على الشخصيات السعودية بمنهجه التغريب في السعودية وسأقف عند حكمه على د. غازي القصيبي رحمه الله ...
قال الباحث عن الشخصية الثانية: «وشخصية غازي القصيبي كغيره من الشخصيات التغريبية تعاني القلق والتخبط والضياع، يقول معبرا عن ذلك : هل تستطيعين إنقاذي من الملل ؟ هل تستطعين إرجاعي إلى مثلي ؟ أنا أمامك فكرة ممزقة وحيرة وحماس ضائع السبل، مازلت أبحث عن درب لقافلتي، مازلت أسأل عن معنى لمرتحلي...
وهذا الكلام يعبر بجلاء عن القلق والحيرة والاضطراب والضياع الذي تعاني منه شخصية غازي القصيبي..»
صورة مضحكة لكل منصف، وهذه المشاعر الحزينة لم يسلم منها إنسان (ولقد خلقنا الإنسان في كبد)، فضلا عن شاعر كما قال أبو الطيب المتنبي:
على قلق كأن الريح تحتي
أوجهها جنوبا أو شمالا
ولو كان كل شاعر يشكو القلق والحيرة والضياع تغريبيا لكان كل الشعراء تغريبين ابتداء من امرئ القيس وانتهاء بعبد الرحمن العشماوي وليس المقام مقام سرد لتجاربهم مع الحزن والشكوى، ولكن الحقيقة أن معالي الدكتور غازي القصيبي لم يفهمه أحد، غازي الذي كان يتكلم حينما يسكت الآخرون، غازي الذي كان يصرح برأيه مهما كان الجبروت في الواقع أمامه، غازي الذي كان ثروة وطنية لم ندرك قيمتها إلا بعد فوات الأوان، ولو كان يعاني مما وصمه به الباحث لفشل في إداراته وأدبه وإنسانيته ودبلوماسيته وكل شيء في حياة غازي رحمه الله يثبت نجاحه واستقراره النفسي والعقلي ولا أدل على أهميته من إمامة سماحة المفتي للمصلين عليه وثناء سماحته ووجهاء المجتمع وطلبة العلم، فقال سماحته في حديث خص به «الوطن»: «غازي القصيبي من رجالات الدولة المخلصين وأسأل الله له الغفران والرحمة». وكان وجود عدد كبير من المصلين الملتحين الذين كان التأثر واضحا عليهم، ومن العلماء وطلبة العلم الشرعي الذين كان البعض منهم يترحم عليه بصوت عالٍ جداً وهم يساهمون في رفع جثمانه.
والدليل على عدم الموضوعية في الحكم على الشخصيات السعودية وتحميل نصوصها المبتورة ما لا تحتمل من نوايا سيئة وأفكار خبيثة مخبثة قوله عن غازي ص126: «يرى غازي أنه يجب أن تبقى الأخلاق بعيدا عن الشعر وإلا فإنه يعتبر تقييد الشعر بالقيم الأخلاقية ورطة حيث يقول: إن كثيرا من الخلط المتعلق بالشعر ينبع في رأيي من النظر إليه بمنظار غير منظار الشعر ذاته.. إذا نظرنا إلى الشعر بمنظار أخلاقي وقعنا في ورطة أخرى فلابد لنا أن نستبعد من نطاق الشعر الأشعار التي تتعارض مع قيمنا وأخلاقنا»..والحكم على هذا النص في صالح غازي وليس ضده لأنه نص على القيم والأخلاق... وكان على الباحث أن يستحضر في حكمه عليه كل الصور الاجتماعية والسلبية في الشعر العربي ابتداء من غزل امرئ القيس مرورا بغزل أبي نواس وعمر بن ربيعة وانتهاء بشعراء العصر الحديث، بل إن حكمه على غازي بمعزل عن المعارك الأدبية بين علماء الأمة حول الشعر والأخلاق من أمثال القاضي الجرجاني في كتابه الوساطة بين المتنبي وخصومه وابن رشيق القيرواني في العمدة والعسكري في الصناعتين يعد ناقصا ولا يحمل في طياته موضوعية ليدرك أن أولئك الذين قالوا إن الشعر بمعزل عن الدين لم يكونوا يحملون منهجا تغريبيا ولم يخلق الله الغرب في تلك الحقب الزمانية علما أنني لا أتفق مع تلك النظرية النقدية التي تفرغ الشعر من مضمونه الأخلاقي والقيمي ولكن أضعها في سياقها وأقبل النقاش حولها مع عدم تجريمي وإقصائي لمن يرى خلاف ما أراه ولذلك كان غازي أحق بهذا من حكم الباحث عليه بالتغريب وطمس الهوية الإسلامية للأمة حسب تعريفه لمصطلح التغريب المذكور آنفا... والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com