لما اتجهت من الطائف جنوباً قاصداً الباحة، شعرت بالذكريات تنهال علي من كل مكان، واسترجع ذهني قولي في قصيدة سابقة لي رثيت بها الشاب المجاهد الذي استشهد - كما أرجو له ذلك - أحمد الزهراني في أفغانستان في بدايات جهادها ضد السوفيت كان أحمد من سكان الطائف.
والطائف الولهان شد إزاره
فرحاً أحيا ليله وتهجدا
يا أنت ما مرت علينا روضة
في دربنا إلا وتذكر أحمدا
وأتيت تمنحني المسافة نفسها
أمة وتحمل في يديها الموقدا
وأتيت ينتحر الضياع على يدي
ويصير رمل الدرب حولي عسجدا
نعم إن المسافة حينما تشعر بشوق السائرين تتحول إلى أمة مخلصة تحتفي بهم، وتحمل لهم موقد الإحساس بقرب اللقاء، وسعادة الاحتفاء.
شعرت أن طريق الطائف - الباحة - بعد توسعته المباركة قد أصبح رفيقاً مؤنساً للمسافر، يكاد يغني له سهولة واتساعاً، وقرباً وانطواء، وإن كانت قد لامست قلبي مسحة من الحزن حين تذكرت معاناة (الطريق الواحد الضيق) التي كانت تضغط على مشاعر أمي الحبيبة حينما ننطلق بسيارتنا ذاهبين إلى الباحة أو راجعين منها وذلك لما كنا نرى من حوادث السير المؤلمة على الطريق، مسحة حزن لم يكن منها بد وأنا أرى هذا الطريق بمساراته المتعددة يفتح صدره مبتهجاً بالعابرين.
المسافة أصبحت قصيرة فعلاً، ولولا تلك التحويلة التي تشوه جمال هذا الطريق عند جسر وادي تربة، لتحقق قول أحد شعراء العرضة في منطقة الباحة حينما قال محتفياً بافتتاح الطريق الأول (ساعة توديك للطايف وساعة تجي بك) كنت أعلق عليه في ذلك الحين بأنها مبالغة مقبولة في الشعر فلا بأس أن تتحول شعرياً الساعات الثلاث إلى ساعة واحدة من باب الكناية عن اختصار السفر، بعد تعبيد الطريق.
وصلت إلى العقيق عن طريق (كرا) وهو طريق ممتد عبر أرض منخفضة لا تعاني من ارتفاع الجبال الشاهقة التي يتسلقها الطريق الآخر في جبال السروات، وفي العقيق رأيت تطوراً كبيراً في شوارعها ومبانيها، ورأيت طريق العقيق الرياض الجديد الذي غير معالم أجزاء من هذه المدينة، وفتح أمامها وأمام المنطقة كلها باباً للسفر المريح حيث اختصر ما لا يقل عن ثلاثمائة كيلو متر من المسافة بين الباحة والرياض، وهو طريق سريع في بدايات الإنجاز ونرجو أن يتم إنجازه عاجلاً لما له من أهمية في الربط بين منطقة الباحة ومنطقة الرياض.
وقفت في العقيق أمام ساحة جميلة على جانب طريق المطار القديم رفعت أمامها لوحة كبيرة كتب فيها (ساحة اللياقة البدنية) وهي ساحة كبيرة وضعت بلدية العقيق فيها بعض الآلات الرياضية الجميلة وآلات ألعاب القوى، ظهرت بصورة تلفت النظر وتستحق الإعجاب، وتجعل الشكر لمن أقامها واجباً، وهناك على طريق المطار الجديد المتجه إلى مدينة الباحة تقف مباني جامعة الباحة شاهداً على تطور هذا الجانب المهم في بلادنا، وقد استطاع هذا الطريق الجديد أن يكسر حدة الجبال الشامخة بصخورها الضخمة، ويختصر المسافة بين مدينتي العقيق والباحة لتكون أقل من أربعين كيلو مترا.
أما قرية عراء (مسقط الرأس) فلن أطلق سراح قلمي في الحديث عنها الآن، لأنه سيخرجنا عن إطار مساحة زاوية في جريدة.
في الباحة وغاباتها ومساكنها تطور يستحق أن يراه من يريد الاستمتاع بصيف بارد تجمله السحب التي ترسم أجمل اللوحات في سماء المنطقة.
إشارة:
وقفت على السفح الذي كنت أعرف
وقلبي يعاني والمدامع تذرف