أول خطوة نحو التعامل الصحيح مع برامج السيطرة على العواطف والعقول هي معرفة الحقيقة عن دواخل هذه البرامج. المظهر الخارجي المهيب الذي يتخذه مَن يريد التسلل إلى عقول الآخرين ما هو إلا مجرد خدعة قديمة قدم التاريخ لتغطية الأهداف السياسية المطمورة في محتواه الداخلي. علينا أن نعرف أن المظهر الخارجي بحد ذاته ليس مرتبطا فقط بمواصفات الجسامة والفخامة وإنما يتعداه عن قصد إلى طبقات الصوت وانتقاء المفردات الخطابية والتحكم في الملامح وتقطيب العينين ودوزنة الحركات، ومنها حركات السبابة بين الأصابع على وجه الخصوص. إضافة إلى كل ذلك يبقى ما قد يكون الأهم على الإطلاق، وهو إطلاق العنان والهوى للتوليف والاختلاق كلازمة مباحة لا يعتقد مستعملها أنه يأثم لتدعيم ما يراه في صميم اهتماماته وأولوياته لكشف مكان الخطر عند المختلف عنه في المألوف والمعتاد. سارت أغلب شعوب الأرض لأزمنة طويلة خلف دغدغة العواطف وإثارة المخاوف بالمؤثرات الصوتية والبصرية، واستمر الأمر هكذا حتى اكتشفت الشعوب تباعا أن الانقياد دون تفكير شخصي عميق سبب أساسي في فشلها وهزائمها فانصرفت عن ذلك إلى ما يخاطب العقول ويقدم شيئا ملموسا ومفهوما للتعامل مع الدنيا بشروط الحياة الصعبة ومع الآخرة بشروط الدين الميسرة، وليس بالجلبة والتهديد والوعيد.
محاولات الإقناع بقبول تعاسة الحياة الدنيا العابرة للحصول على المكافأة في الآخرة الدائمة لم يثبت جدواها أمام المحاولات العقلانية للحصول على السعادتين عند مسلمي تركيا وماليزيا على سبيل المثال. تركيا وماليزيا من الشعوب الإسلامية التي تعزز إسلامها وازداد مناعة وصلابة ولم يضعف أمام قوى التجبر من أتباع المعتقدات الأخرى. البوذي والهندوسي في الهند لم ينصرف عن معتقده بدخول دولته إلى ميادين العلم والعقل، بل ازداد تمسكا وصار يتعالى على المسلمين في مجتمعه الهندي حين تقدم على العالم الذي ينتمون إليه في المعتقد.
اليهودي لم تنقص من تهوده وتصهينه انطلاقته العلمية المتحررة من الخرافات اليهودية السلفية، أما المسيحي فمن المؤكد أنه لم ينسلخ من نصرانيته كما نتمنى وندعي. كاتدرائياته وكنائسه تكتظ بالمصلين ومبشروه ينتشرون في كل مكان تدعمهم القوة العلمية والمالية والعسكرية. بالمقابل كيف نفهم لجوء شعوب تدعي أنها تقدم الروحانيات على الماديات وتعاير الشعوب الأخرى بذلك، كيف نفهم لجوءها إلى شعوب لا روح لها للتوسل عندها الإنقاذ من أوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية البائسة؟
من المسؤول عن ابتلاع المفارقة المخزية بين الكلام والواقع في عالم الإسلام تجاه ما حصل بالأمس في البوسنة والهرسك وألبانيا ويحصل اليوم في ليبيا وقد يحصل غدا في سورية واليمن؟ أين الروح التي ينفخ فيها الوعاظ والشيوخ المرفهون المتوشحون بالعباءات المقصبة أمام الميكروفونات؟
إذن، لكي يعرف الناس الحقيقة والهدف مما يتعرضون له من محاولات برمجة وهل هي في السياق التركي الماليزي الترغيبي، أم في السياق العربي الترهيبي، عليهم أن يقوموا بالتالي:
أولا: محاولة التعرف على الهياكل الداخلية لمراكز البرمجة، كيف تعيش (مرفهة مترفة أم متعففة متواضعة) وكيف تسهم شخصيا في ما تدعو إليه من جهاد النفس والدفع (هل بالمال والنفس أم بالتحريض عن بعد)، وهل تلتزم بما تنهى الناس عنه من السفر والاختلاط بمجتمعات الكفار (فلا تسافر مع عوائلها إليهم ولا تتنزه في حدائقهم ومتاحفهم وتسكن في فنادقهم ولا تعالج في مستشفياتهم، بل تكتفي بما هو متاح من الإمكانات المحلية).. إلى آخر ما في هذه الحياة الفانية من اقتصاديات البنوك والأسهم والشركات الربحية والتورق بالفوائد غير المنظورة المؤكدة.
ثانياً: التعرف على ما تقدمه هذه البرامج لمجتمعاتها من عوامل القوة والمناعة الذاتية روحيا ومادياً، بحيث لا تستمر هذه المجتمعات عالة في جميع شؤون حياتها على الآخرين، امتدادا من الملبس والمأكل والمشرب والتداوي وصولا إلى تأثيث دور العبادة بمستلزمات التكييف والإضاءة ورفع الأذان.
ثالثا: التعرف على الأسلوب الذي تتعامل به مراكز البرمجة مع المختلف عنها في الحسب والنسب والرأي والمذهب داخل نفس المعتقد، وهل يتم ذلك بما تفرضه تعاليم الإسلام الواضحة نصا ومضمونا، أم بالتعالي والترفع والفرز والإقصاء.
عندما تتضح الأمور للعقول فتهضمها العواطف يصبح كل مجتمع معذورا بما يتقبله أو يرفضه وما يصدقه أو يعرض عنه وما يترتب على ذلك من نتائج.