توقع كثير من الخبراء في بداية القرن العشرين أن تكون مصر، أكبر الدول العربية، أول دول العالم الثالث التي تلحق بركب الدول المتقدمة. وسبب هذا التوقع لا يتعلق بتوفر الثروات الطبيعية، والموقع الجغرافي، والعدد السكاني، بل لوجود طبقة متعلمة في مصر، حيث يوجد في مصر عدد من حملة الدكتوراه يفوق دولا أوربية مثل بريطانيا. وكانت التوقعات لمصر تفوق الهند، والصين. لكن فساد الخديوي في مصر، وسوء إدارة الحكومات الاشتراكية المتعاقبة حطم النسيج الاجتماعي في مصر وجعلها تراوح مكانها، بينما الدول الأخرى تتقدم.
أما لبنان الذي كان قطعة من أوربا، وكانت الصناعة البنكية فيه تنافس سويسرا، والصناعة السياحية تنافس أفضل الدول الأوربية فقد مزقته الحروب الطائفية والمذهبية مما أدى إلى تدمير بنيته التحتية وتراجعه للوراء عدة عقود. أما عدن جوهرة البحر العربي، وأهم ميناء بين الشرق والغرب، والذي كان يضاهي لبنان في انفتاحه، وتطوره، فقد دمرتها الحروب، والصراعات السياسية، والشيوعية القبلية حتى أصبح أثر بعد عين. أمثل بسيطة للتاريخ الحديث لبعض دولنا العربية. أما بقية الدول العربية ومنها تلك التي تملك إمكانيات ضخمة فهي ما زالت تتلمس طريقها مترددة بين الانفتاح والخصوصية. وبالمختصر المفيد فالعرب اليوم خارج نطاق التطورات الاقتصادية والتقنية الفعلية في العالم، بالرغم مما نشاهده من مظاهر تقدم سطحية.
ما نشاهده اليوم في العالم العربي من تخبط سياسي تحت مسميات مختلفة: الممانعة، المقاومة، المماحكة، المهادنة، الخصوصية، والخصخصية فما هي إلا مظاهر من مظاهر هذا التخلف. وما نشهده من احتجاجات شعبية كبيرة ليس إلا مظهر من مظاهر اليأس المميت الذي دب في الشعوب، وتعبير عن خوفها على مستقبلها ومستقبل أبنائها. ولذلك، ورغم كل ما يحدث، لا يستطيع أحد أن يفسر مطالب الناس، أو المستقبل الذي ينشدونه. فالعقل العربي غشته العموميات المجردة، والشعارات البراقة، والعبارات المطلقة التي جعلته يطفو فوق ركام رخو من التطلعات غير واضحة المعالم.
والعالم العربي يتطور مظهرياً، واستهلاكياً، وعلى مستوى السطح فقط، لكنه في واقع الحال يعاني من نمو مشوه، متورم في بعض القطاعات ومنحسر في أخرى. فهو مثلاً متورم استهلاكياً ومصاب بفقر الدم الفكري. وهو يجمع بين تناقضات لا توجد عند غيره من الشعوب. ففي العالم العربي فقط قد تجد جراح للقلب يجزم أن القلب مقر السعادة والإيمان. وفي العالم العربي فقط قد تجد عالم هندسة بشهادة الدكتوراه يرى أن الخطين المتوازيين يمكن أن يلتقيا بإرادة الإمام المعصوم، ولا يدرك أنهما متى التقيا لم يعودا متوازيين.
لا زال العالم العربي، بما يجمعه من لغة، وقومية، وتراث يعاني من التمزق الذي تغذيه المصالح الشخصية الضيقة التي تتلبس لبوس الخلافات السياسية، والمذهبية. والجميع يتمسك بهذه المصالح دونما إدراك لما يدور حوله، ودونما إحساس بالتطورات العالمية المحيطة به. شعوب مثل الهند التي يوجد بها أكثر من ألف مذهب وديانة، وأكثر من مئتي لغة وجدت طريقها نحو المستقبل. الصين بست وخمسين لهجة مختلفة تكتسح العالم اقتصادياً، دولاً مثل فيتنام وكمبوديا سحقتها الحروب سحقاً أصبح تنافس الهند والصين صناعياً، أما في عالمنا العربي التي تستنزف فيه الموارد البشرية والطبيعية فيجمع بين أكبر مظاهر الثراء والتخلف. أحد أقارب رئيس دولة اشتراكية مثلاً يملك ثروات بعشرات مليارات في دولة أوربية ليس من تجارة، ولا علم، ولا اقتصاد، بل من انتفاع من منصب عسكري، بينما مستوى دخل الفرد السنوي في هذه الدولة لا يتجاوز الألف دولار. وزير اتصالات في دولة أخرى يشتري نصف حي كامل في دولة أوربية، بينما الاتصالات في بلاده لا زالت متخلفة نصف قرن للوراء. العرب يملكون أكبر اليخوت، وأجمل القصور، وأسرع الطائرات الخاصة، وأبسط العقول، هكذا يعرفهم العالم، أو هكذا عرفوا أنفسهم للعالم.
لدينا مشكله كبيرة مع دولة صغيرة تدعى إسرائيل، عمرها ستون عاماً تقريبا، ونحن في صراع معها طيلة هذا السنين ولم نستطع التقرير بعد هل نحاربها أم نهادنها، بل أن بعضنا هادنها وأصبح يثق فيها أكثر من «أشقائه» العرب الذين يقابلهم كل سنة في مؤتمرات قمة كان لها الدور الأكبر في نشر الخلافات. والبعض الآخر اتخذها شماعة للقمع والتخلف تحت مسمى المقاومة، وشعار الرد في الوقت المناسب. وعندما سلمت إسرائيل نصف قرية لدولة عربية احتج سكانها على ذلك لانعدام الخدمات البلدية، والتعليمية، والصحية التي كانت توفرها البلدية العدوة لهم في النصف الآخر العربي الذي دمجوا معه. حالة التذبذب هذه من اللاسلم واللاحرب هي مظهر من مظاهر التأرجح والتردد العربي الشامل.
العرب غفوا غفوة عميقة عن الثورة الصناعية، والثورة التقنية، والثورة المعلوماتية، وسبقوا العالم أجمع في الثورات الانقلابية. ولا أحد يشك في أن العرب لا يقيمون للوقت وزناً، وهم يعتقدون أنهم ليسوا في عجلة من أمرهم، وأنهم يستطيعون اللحاق بالعالم الذي تجاوزهم متى شاءوا أو أرادوا. ولا يختف اثنان على أن قطار التطور العالمي قد تجاوزهم، ويبقى السؤال هل من أمل في تغير أحوال الأمة واللحاق بركب التطور. إن هذا هو، كما يقال، سؤال المليون دولار.
هذه الفوضى العربية العارمة التي تسود العالم العربي هذه الأيام تحت شعارات مثل: «الشعب يريد ..»، أو «الشعب يطالب..» توحي بأن هناك شعوب تدرك ما تريد، أو تعرف الطريق الذي تسلكه، ولكن واقع الحال المؤلم هو أن هذه الشعوب المقهورة المسكينة، مثلها مثل تلك التي تمردت على الاستعمار الخارجي فيما قبل، لا تعرف بالضبط إلى أن تلوى، بل إن بعض المتشائمين يرى إطلالة جديدة للمستعمر البغيض بحجة أنه مستعمر متحضر أرحم ولو كان خارجياً من مستعمر داخلي همجي يعذب الأطفال، ويغتصب النساء، وينتهك الحرمات، وهذه هي وللأسف نتاج تجربة ما بعد الاستعمار في عالمنا العربي. حال لا تبشر بمستقبل قريب مستقر أفضل من سابقه، بل لا سمح الله قد تأخذ هذا العالم الممانع المتخلف إلى مستقبل مجهول. حمدنا الله وإياكم العاقبة، ولعل في الأمر خيرة للجميع.
latifmohammed@hotmail.com