لقد هممت أن أصرف النظر عن التخطِّي إلى رحاب الرأي العام في سبيل موضعته، لا خوفاً ولا استخفافاً، وإنما لتشعُّب قضاياه، وتشتُّت الآراء حوله وشحّ المرجعية المعرفية وتعدّد المنتابين له تصوّراً أو صناعة أو إثارة، وأيّ حقل تنهكه الأقلام وتتداوله الآراء وتقوضه الأفكار، تكون مساربه متاهة ومُدَّخلاته محيِّرة،
ومغاراته مربكة، ثم إنّ من عادتي قبل التلبُّس بأي قضية أن أجدّد معلوماتي وأراجع حساباتي وأستجلي رؤية من يكربني سناً أو يسبقني زماناً، إذ ما ترانا نقول إلاّ معاراً أو معاداً من القول المكرور، و»هل غادر الشعراء من متردِّمِ». ومن ظنّ أنه لا يُفْري فَرْيه فَقَد وَهِمَ، وهل بعد: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» من دعوى لبراءة أي فكر أو حضارة، وما الأسد إلاّ مجموعة خرافٍ مهضومة، وفي النهاية ما من خطاب إلاّ هو لبنة في قصر الحضارة الإنسانية المشيّد.
وما زجّ بي في أتون الرأي العام إلاّ تلك الأحداث الجسام التي انهمرت على مشاهدنا السياسية كما زخّات البرد، وتلك المخاضات جعلت الرأي العام من القضايا الأكثر أهمية والأشد إلحاحاً، ولقد أراهن على أنّ الرأي العام هو المقصود بالفتنة القائمة التي لعن الرسول صلى الله عليه وسلم موقظها، وهو من أوائل من اتقى إيقاظها عام الفتح. والعلماء المجربون يستعيذون من ضجة العامة، وكم من خليفة أو عالم جرفته صيحة العامة، وما الفتنة الكبرى التي قصمت ظهر الخلافة الراشدة إلا ناتج الإثارة وإيقاظ الرأي العام، وما طورد العلماء وما أحرقت مؤلّفاتهم إلاّ بالتهييج الأهوج للعامة. والمتابع المدقّق يعرف كم هو الفرق بين صناعة الرأي العام وإثارته، والمراهن عليه كراكب الأسد يخيف الناس وهو منه أخوف. لقد أصبحت للرأي العام أهميته بعد الانفجارات المعرفية وثورة الاتصالات وهيمنة الإعلام عبر قنواته المتعدّدة ومواقعه المختلفة وصحفه المنتشرة، فهو بهذا الاستهداف المكثف يمسي على حال ويصبح على حال، وتلك الوسائل التوصيلية بكل مغرياتها كما الشيطان الذي توعّد الخلق بأن يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ويقعد لهم صراط ربهم المستقيم. ومن ذا الذي يجهل أهمية الرأي العام وخطورته، بعد تلاحق المظاهرات وتتابع الاحتجاجات وتوالي الاعتصامات، التي أدّت إلى سقوط الأنظمة الظالم أهلها، وبعد أن كشفت عن قلاع ورقية ونمور من كرتون وهشاشة في العظام.
لقد أصبح من الضروري موضعة الرأي العام بطريقة تختلف عن موضعة رجال التربية ورجال الاقتصاد، وما لم تسبر أغواره وتعرف مكوّناته وترصد اهتماماته ويتحسّس عن هواجسه، فإنه سيتخطّف من بين أيدي قادته وحماته.
وأهمية الرأي العام تزداد بعد الحراك المتدفّق عبر الشوارع والساحات كالإعصار والحكومات المتسلّطة المستبدّة التي أحكمت القيود وخانت العهود لم تصمد أمام هبة الشعوب لأنها لم تكن على علم بمكوّنات الرأي العام ولا على معرفة بمطالبه ولم تتوفّر على آليات صناعته، وتساقط الأنظمة المهترئة كورق الخريف مؤشر فشل ذريع أمام الرأي العام، وفشل في صناعته، هم خادعوه ولكنه في النهاية خدعهم، وأتقنوا إثارته وحاجته إلى صُنّاع، يحولون دون الإثارة والتهييج، لقد انتهت لغة الزعيم الأوحد وتلاشت ثلاثية: الله والوطن والزعيم، فالزعامة الحقة تتجسّد في حزم المنجزات في سيادة القوانين والأنظمة والدساتير في دولة القانون أياً كانت مرجعيتها، فالشعوب حين تُصنع على أية عين يكون تسليمها عفَوباً واستجابتها طوعية بحيث لا تكون الصناعة الجادة والمحْكمة إلاّ من خلال الحاكمية التي تنبعث من مرجعية نصية قطعية تحسم الخلاف وتحمي وحدة الفكر والمنطلق والهدف وتقي من التلفيق الذي يطيل زمن التيه، إنّ شعوباً أوغلت سلطاتها في العلمانية الشاملة، وأخرى أوغلت في الماركسية الملحدة حتى ظن الراصدون ألاَّ عودة إلى الجذور بعد طمرها بالرغاء الإعلامي والحمل القسري. وحين أحكمت بعض الأحزاب خطابها، وأثبتت قدرتها على العودة إلى الأنساق الثقافية المتجذّرة في الأعماق والكامنة في اللاوعي، تحركت البواطن لتقول لهذا الخطاب: نعم. كل الثورات العسكرية اعتمدت الإثارة ولم تعتمد الصناعة، ومن ثم ركنت إلى الغوغائية والوعود المعسولة، والمثاليات الزائفة، وانْساب ذلك الحذر لتغفو الشعوب ردحاً من الزمن، ولقد جسّد «توفيق الحكيم» شيئاً من تلك التحوّلات غير المستقرة في كتابه «عودة الوعي» وكان ممن خدع بخطاب الإثارة فكتب من قبل «عودة الروح» الأمر الذي خفر بعض المخدَّرين إلى إصدار كتاب «الوعي المفقود» وآخرون تحدثوا عن الصامتين في كتاب «الصامتون يتكلمون» و«مشيناها خطاً كتبت علينا». هذا الحراك القولي يجسِّد الفرق بين صناعة الرأي العام وإثارته، لقد واكبت الإثارة المد الثوري ردحاً من الزمن. زمرٌ من المرجفين بالخيل والرجل يقترفون الإثارة ولا يمارسون الصناعة، يعرفهم الناصحون بسيماهم إنهم الذين عناهم الشاعر بقوله «مفتحة عيونهم نيام». الخطيب الأهوج والمفكر الطائش والإعلامي المداهن والمذهبي المتعصّب والطائفي المنغلق والمعلم الأحمق والحاكم الكذاب.. كل أولئك لا يملكون إلا اإثارة وزج الرأي العام في أتون الفتن. ونقيض أولئك هم الأقدر على صناعة الرأي العام وتمكينه من الوعي والانضباط وتحامي الصدام وتفادي الانغلاق والجنوح إلى الحوار والتعايش وتبادل المصالح والمنافع. الصانعون للرأي العام هم المصلحون الاّ الأنانيون الصالحون في ذواتهم ولذواتهم، ذلك أن المجتمع المصلح يملك مقومات البقاء أما الأفراد الصالحون المنكفئون على ذواتهم المعتزلون لقومهم فهم أقرب إلى السلبية والأنَوِيَّة، ولهذا جاء الخبر عن العبد الصالح الذي بدئ فيه بالعذاب لأنه لم يتمعر وجهه من أجل الحق، صناعة الرأي العام بيد المصلحين لا الصالحين فقط، ولاسيما بعد تلاحق الثورات العلمية والإعلامية.
ثورة الإعلام والاتصال تسببت في إفاقة الرأي العام وتفكيره بمصالح ومحققات وجوده الكريم وحفظ مثمّناته الحسية والمعنوية والتخطّي به إلى الندية، وتفريقه بين من يثيرونه ويهيجون مشاعره ويزجونه في أتون الفتن ومن يُحكمون صناعة تفكيره وتثبيت أفئدته. والدول الكبرى التي كانت تحرك الأوضاع من وراء «الكواليس» وعبر حَمَلَة الحقائب والمناديب المتجولين أصبحت مواقفها مرتهنة لنبض الشارع. وأزلامها الذين ركنوا إليها لم يجدوها في ساعة العسرة، ذلك أنها مع مصالحها وليست مع مبادئها. وحيث تكمن المصلحة يكون الوجود، والمتابع للتحوّلات يقطع بأنّ الرأي العام سيكون سيد الموقف، ولكنه لكي يتخلص من رواسب الإثارة التي واكبته عَبْر المد الثوري لا بد أن يتحمل ويلات المرحلة الانتقالية.
ولقد أشرت من قبل إلى مرحلة الإفاقة، فالجماهير التي هتفت بسقوط الأنظمة جمعتها المعاناة ووحّدتها الشكاية، غير أن صنّاع الإثارة تركوا فيها رواسب أشبه بتسرب الغازات السامة، إن هناك أطيافاً وطوائف وانتماءات متعدّدة بدأت تطفو على السطح، ولكل طيف خطابه الذي يختلف عن خطاب الطيف الملاصق له، ومرحلة الإفاقة ستتمخض عن أكثر من خطاب مصادم أو مصارع، وحينئذ نعود لنقول: من يصنع الرأي العام؟ ومن يثيره؟ هناك الحواضن التقليدية: البيت، المدرسة، المسجد. وهناك البدائل من الحواضن الضاجية والخفية، ولقد كثر الجدل حول المنهج الخفي وهو جدل عقيم لأنه يرجم بالغيب، ولكنه خيط - وإن كان باهتاً - قد يفضي إلى شيء مهم، وكم من حاضن خفي ربما لا يُرى بالعين المجردة ولكنه خَدَرٌ ينساب في المفاصل فيدفع الأفكار، فالقبيلة والطائفة والإعلام الذي لا يعف حتى عن ملاحقة فساتين سيدة العالم الأولى ما شكلها وما لونها وكأنه بقرة بني إسرائيل، وطول المعايشة يقلب الموازين، ولقد سُئِلَت أعرابية صَبَتْ إلى غلامها، ولما سئلَت قالت «طول الرقاد وقرب الوساد». إن تشكيل الوعي لا يتم بين عشية وضحاها، وصناعة الرأي العام تحتاج إلى طول المعايشة وقرب المجالسة لتكون الصبوة، ولقد يصاب البعض باستعجال النتائج، وإن يوماً في صناعة الرأي العام كألف يوم مما تنجز فيه سائر المطالب، أما الإثارة فقوامها الصوت والفهلوة وتجييش العواطف، وذلك بعض معايشاتنا مع المد الثوري، الذي طرح أكثر من مشروع وضم أكثر من أجوف. لقد راهنت مواقع كثيرة متخصصة برصد تصوّرات الرأي العام على أن بعض الدول أقوى من تدفّق المتظاهرين في الشوارع، واتضح أن المنظومة كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، لأنها ظلت تتقن فَنَّ الإثارة، فيما جاءت رهانات أخرى تتوقّع سقوط دول دون ذلك فيما اتضح أن الرأي العام متصالح مع قيادته، الفرق بين هؤلاء وأولئك أن صانع الإثارة يلهث وراء سراب القيعان، أما صانع الرأي العام على الثوابت والقيم فهو كمن يملأ عيبته بالعتاد والعدة ويجدها في ساعة العسرة.
إن الواقع المعاش فرض على المشاهد كلها لغة جديدة لا مكان فيها لأي حسابات تستمد أرقامها من السبعين العجاف التي خَبَّ ووضع فيها من عناهم الشاعر بقوله:
«أمتي كم صنمٍ مجَّدته
لم يكن يحمل طهر الصنم»
لقد تقاذف الرأي العام مستغربون وعروبيون وإسلامويون وإقليميون وساسة فارغون وعاش حياته بين جزر ومد، وحاجته اليوم إلى من يقيل عثرته ويضمد جراحه ويعيده إلى جذوره الأولى فما صلاحه إلا بما أصلح سلفه الأول، ولكن عبر خطاب يعي متطلّبات المرحلة ويتوفر على فقه التمكين والواقع والتوقع، وصناعة الرأي العام سهلة ويسيرة على من يسّرها الله عليه، وقد لا تحتاج إلى ذكاء مفرط ولا إلى إمكانيات استثنائية، فقط نوايا سليمة ومقاصد سليمة وآليات محكمة ومناهج دقيقة، لقد سئمت الشعوب اللعب بعواطفها والمتاجرة بمثمّناتها، وتلك الانهيارات المتلاحقة دروس عملية لمن أراد الله به خيراً ومكّنه من الخروج بأمّته من عنق الزجاجة بأقل التكاليف.