عشنا رجباً ورأينا عجباً!! ها قد طلعت علينا شمس يوم ظنناه بعيداً فباغتنا بقربه، يوم أصبحت فيه الثقافة مطلباً نسعى إليه حثيثاً: أدباء وأئمة، شعراء وخطباء، رواة ومدرسين، كتاب وتربويين، كلنا نتطلع إلى الثقافة بشغف ورغبة ملحة في الانتماء وشعارنا: الأندية الأدبية للجميع. كل شرائح المجتمع تتسابق للحاق بركب الثقافة اللأدبية، كلهم مواطنون ولهم نصيب في محاضنها التي ترعاها الدولة..
..ومن حقهم أن يقتحموا أسوارها النخبوية، وأن يحضروا مجالسها التثقيفية حتى يصلوا سوياً إلى مستقبل أكثر إشراقاً وبهجة.
لقد انقضى ذلك الماضي الأقل إشراقاً حين كانت الأندية الأدبية تعاني من العزوف عن أنشطتها، وحين كان القائمون عليها يرسلون الدعوات في الصحف والهواتف والمسجات والإيميلات فلا يجابوا، حينٌ كانت فيه القاعات شبه خالية إلا من قلة. لقد خلصنا إلى الأبد من ترجي الجماهير، وحثهم على الحضور، ودفعهم إلى الاستفادة من برامج الأندية والانخراط فيها دون جدوى.
في هذا اليوم المتألق شرائح المجتمع كلها تقبل من تلقاء ذاتها وبحماس شديد وإصرار عنيد لتكتسح القاعات وتملأها لآخر مقعد، جموع تتكالب لتكون مشاركة وفاعلة ومحركة. لقد انقضى إلى غير رجعة عهد كانت الأندية الأدبية فيه مثار السخط والانتقاد الشديدين، فتارة تكون شللية ومحابية، وتارة هي مملة وغائبة عن الواقع. في ذلك العهد السحيق لم يحرص على ارتياد الأندية إلا ثلة من الفئويين الذين لا هم لهم سوى الأدب ومدارسه التغربية وتياراته المنحرفة، أما اليوم فستدك قلاعها المحصنة ليدخلها كل الناس، وستصبح مناشطها الثقافية متصلة بحياة الناس وشئون المجتمع ومسائل الفقه ودروس التربية وأمور التعليم وتثقيف المرأة وتدريب المهارات وتأهيل الشباب والترفيه عن الأطفال... كل شيء لكل الناس.
أخيراً تحققت أهداف تأسيس الأندية الأدبية، فستفتح أبوابها لتصبح مثل خلايا النحل تعج بالناشطين والناشطات والنشاطات اللامنقطعة، أخيراً هل علينا رجب ورأينا فيه العجب! ما طبيعة هذه المعجزة التي غيرت حالنا إلى حال؟ ما الذي جعل الحياة تدب فينا فنتدافع زرافات لنشارك في العمل الثقافي اللأدبي؟ أين كنا كل تلك العهود المنصرمة، وما الذي أتي بنا بهذه السرعة المتناهية؟ ما الذي تغير فينا أو فيما حولنا؟
كل ما يمكن أن نفكر فيه كعنصر مسبب لكل هذه الجلبة هو العملية الساحرة: الانتخاب. نعم، لابد أنها عملية الانتخاب، فنحن في لهفة كبيرة لممارسة هذا الفعل الديموقراطي، لدينا نهم وشوق للانخراط في تجربة طال انتظارها، تجربة ستمكننا من الاختيار الحر في ظل تساوي الفرص. ومن أجل ذلك حشدنا أنصارنا، وسجلنا تابعينا، ودفعنا بزملائنا وأبنائنا ومحبينا لتعبئة استمارات العضوية حتى نحصل على أكثرية الأصوات، حتى نُنتخب بشكل ديموقراطي بحت! كم هي مثالية هذه العملية ولا يسعنا أمامها إلا أن نكون مثاليين.
لكن كل هذا التهافت لا يقف عند حدود الحرية في الاختيار، فهناك رغبة دفينة في العمل الحقيقي والمشاركة الفعالة، هناك هدف نبيل يجعل الجموع تتدفق بهذا الشكل المبهر ألا وهو الوصول إلى المناصب الإدارية في الأندية، فكل الشرائح المجتمعية لا تريد فقط أن تصل إلى المبنى والقاعة والنشاط، بل تروم السلطة المناطة بمجلس الإدارة، وما مجلس العموم سوى مدخل إلى الأهم: واجهة ووجاهة ومنبر وتحكم بدعم مالي كبير! من هذه الأماكن الحيوية سيتم وضع البرامج التثقيفية الحرة، ومنها سوف يحصل التغيير الذي سيحقق جذب قطاعات واسعة من المجتمع لتبدأ عملية تحصينهم من الفراغ والانحراف الفكري، فالأندية لا قيمة لها إلا إذا مكنت جميع الأطياف من المشاركة.
النفع والقيمة لا تقاس إلا بالوقع والتأثير، وكلما ازداد عدد المرتادين والحاضرين كلما ارتفع مؤشر النجاح والفاعلية، ما لنا وللنوعية، فالقيمة لا بد أنها أفضل حين تكون عددية. كل المشاريع الجاذبة والتي تكدس الجماهير وتلامس مشاكلهم اليومية وتساعدهم على التغلب عليها هي المشاريع الثقافية المجدية، أما تلك التي تستقطب النخب والفئات لتخاطب عقولهم بطرق موضوعية بحتة فهي حتماً مجدبة. ماذا استفدنا من الأندية الأدبية؟ سؤال أفحم كل حكيم: قرابة نصف قرن من المحاضرات واللقاءات والندوات والمطبوعات والدوريات، كلها في مجملها، وفي عطاءات روادها، وبحملها مشاعل الفكر وتحملها الضغوط الرافضة لها، كلها هباء منثورا، ذرة رماد، لا شيئ يستحق الذكر!!
ما الذي يدفع برجال التيار الديني مثلاً إلى الدخول إلى الأندية الأدبية؟ ما سر هذا الإقبال يا ترى؟ هل لديهم مشروع ثقافي بالتحديد ظل منتظراً هذه الفرجة، أم أنهم يحملون مشروعهم الاسلامي إلى مجالس إدارة الأندية؟ هذا السؤال يجد جواباً شافياً في تحركات رئيس نادي مكة الثقافي الشيخ أحمد المورعي، فقد حرص على أن يدلي بأول حديث له لإذاعة القرآن الكريم، ثم قام بتحديد مرجعيته كرئيس للنادي حين زار سماحة مفتي عام المملكة الذي أسدى لأعضاء المجلس عدداً من التوجيهات أهمها مراعاة الثوابت الدينية بما يخدم الأهداف العليا من الأندية الأدبية، أي الدين والأخلاق وتوجيه الابداع لخدمة الثوابت الدينية.
ما سر رغبة الشيخ المورعي وتياره في الدخول إلى مجالس الأندية؟ في عمق هذا الإقبال الرجبي العجيب نستطيع أن نتلمس تحدياً ما، هذا التحدي يظهر بوضوح في تهديد الشيخ عوض القرني بمقاضاة وزارة الثقافة والإعلام بتهمة نبذ أصحاب التخصصات الشرعية من تسجيل العضوية في الجمعيات العمومية، كما نراه في الشكوى التي قدمها منيف عايد الشمري لديوان المظالم ضد نادي حائل لرفضه عضويته وهو ما زال طالباً في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود.
ومن الذي زرع هذا التحدي يا ترى؟ من حرك هذا الصراع وخلق التوتر وجعل اقتحام الأندية وإصلاحها مطلباً دينياً ملحاً؟ في قلب هذا العمق تكمن وشاية أطلقها الدكتور عبد الله الغذامي حين أعلن على الملأ بكلام يقول إنه دار سرًّا بينه وبين وزير الإعلام السابق معالي الأستاذ إياد مدني: «قال لي في مناسبة كبيرة بعد مرور 3 سنوات على التعيينات التي أحدثت في الأندية الأدبية: اطلب منا أي شيء إلا الانتخابات»، ثم أضاف الغذامي مؤولاً ماقيل: «فهمت من كلامه أنه كان يحاذر من ظهور تيار إسلامي لأنه التيار الأعلى والأكثر تنظيماً، فقلت له إذاً أنت لست ديموقراطياً، وإلا فكيف تحدد النتيجة سلفاً؟.»
هل حركت هذه الوشاية حماس التيار الإسلامي وزرعت فيه الرغبة في تحدي الحذر وفي إثبات نتيجة فوزه عملياً؟ لا شك أن وتيرة الحماس ازدادت شعلتها مع انقلاب الغذامي على المثقفين والأدباء الليبراليين دون تحديد ووشمهم بالفشل وانعدام الرؤية والأهداف.
القادمون إلى الأندية الأدبية يريدونها أندية ثقافية مطاطة تستوعب كل شئ، وما قدومهم هذا إلا قدوم إصلاحي وتغييري، قدوم اكتساحي لمعقل يؤي الفاشلين ومنعدمي الرؤية والأهداف لكي يتولوا، وهم التيار الأعلى والأكثر تنظيماً، إثراءه بأنشطة جاذبة ومفيدة لكل فئات المجتمع، هوقدوم تبديلي لكل ما سبق: صفحة جديدة من تاريخ الثقافة اللأدبية العامة. ها قد مضى رجب، وها قد بطل العجب!!
lamiabaeshen@gmail.com