يعتبر عدم احترام القانون الظاهرة العربية الأكثر وضوحاً من غيرها في الأزمنة العربية المتوالية، فمنذ عصر الفتنة ونحن نمانع الخضوع سواسية لأحكام الشرائع، إلى أن وصلنا لحالة الاحتكام إلى قانون القهر، مما أضعف ثقافة احترام القانون وتطبيقاته، وبالتالي توقفت تطور التشريعات وتجديدها، وزاد من تلك الرؤية السلبية أن بعض الزعماء والسلاطين وخاصتهم في تاريخ العرب و المسلمين يرفضون أن يكونوا تحت سقف القانون، بل يحاولون إيجاد المخارج لإضعافه، وانعكست هذه الرغبة العليا على المسئولين الصغار، واضعين في حساباتهم سطوة أولئك الذين يتصرفون بسلطة مطلقة خارج القانون، وبالتالي يهرب المسئول من تطبيقه، و تسقط فوقية القانون وشرعيته، ويبقى مثل أي كتاب آخر على الرف في المكتبة العامة.
***
في عصور القرون الوسطى تواصل فلاسفة الغرب مع الشرق الإسلامي بحثاً عن المعرفة، فعبروا عن إعجابهم الكبير بما تحقق من تطور نوعي في مفاهيم القانون والتشريعات في ديار المسلمين، كان من أهمهم فيلسوف العقد الاجتماعي جان جاك روسو، والذي عبر في كتابه الشهير: في العقد الاجتماعي عن إعجابه بقانون ابن إسماعيل ونظامه السياسي، وهو يقصد بقانون ابن إسماعيل الشريعة الإسلامية، ولسنا في صدد الدفاع عن سمو رسالة الإسلام وحقيقتها الإلهية، لأن المغزى من الأمر أن الغرب تواصل مع الشرق وبحث عن التطور عند الآخر، وقد ظهر ذلك الفهم العميق في ما أصدره الفيلسوف الفرنسي في كتابه الشهير العقد الاجتماعي، يؤكد روسو على ضرورة أن يوفر التشريع في كل دولة الحرية والمساواة، فالحرية لا يمكن أن تتحقق وتتأكد بغير مساواة، والمساواة في رأيه هي المساواة في الحقوق والواجبات، كان يؤمن بالحرية الإيجابية التي تعتمد على العدالة، فلا حرية بغير قوانين، ولا حرية عندما يكون شخص ما فوق القانون، وهو صاحب المقولة الشهيرة أن الطاعة تكون لغير القانون إذا كان هناك من يتصرف خارجه.
***
في كتابه (روح القوانين) يرى الفيلسوف الشهير مونتسكيو أن في فصل السلطات الحل المؤسسي الوحيد للحرية والسياسة، و هو من كبار الفلاسفة الفرنسيين و قد أزعجه سوء الإدارة وفساد النبلاء في ذلك العصر، عندما تحول حكم البلاد إلى حكم استبدادي قضى على القنوات الوسيطة بين الملك والشعب حتى أصبح القانون هو ما يطابق إرادة السلطان، وكان مونتسكيو له موقف شديد الكراهية من الاستبداد، مما زاد من اهتمامه في البحث عن المرجعيات القانونية التي تكفل الحرية الشخصية، لذلك تواصل أيضاً مع الشرق والغرب، و درس القوانين المختلفة، وجمع مادة قانونية ضخمة ثم زار انجلترا وحضر جلسات البرلمان وأعجب بالوثيقة الدستورية الإنجليزية، وبعد عشرين عاما من البحث أصدر كتابه «روح القوانين « عام 1748 في مجلدين وطبع في سويسرا خوفا من الرقابة الفرنسية، وبعد ذلك أصدرت الحكومة قرارا بمنع تداوله.
***
تحققت عدالة القانون واستقلاله في الغرب من خلال جهد فكري فلسفي ضخم، فقد قامت العقول المبدعة بمجهود خارق من أجل تطوير حياتهم القانونية، ومن ذلك أنهم أحدثوا الفارق عندما حولوا قوانين وشرائع العالم على مختلف الأزمنة إلى مرجعيات محددة تحمل بين دفتيها الأجوبة لكافة الأسئلة التي تدور حول القانون والحرية الفردية، وذلك هو بيت القصيد في مآسي المجتمع العربي لأن حدود الحرية الشخصية تختلف باختلاف الفئة، وبالتالي يسقط مفهوم المساواة تحت مظلة القانون في ثقافة العرب، و تبدو الحالة السيئة في أوجها عندما يستجدي المواطن تطبيق القانون من أجل حقوقه المشروعة، ولا يجد جواباً، وتلك حالة شائعة في بلاد العرب والمسلمين في العصر الحديث، فالبيروقراطية المركبة لا تسمح بسمو القانون على مختلف القطاعات، وتضع ثغرات تُدخل الباحث عن حقوقه في دوامة من الإحباط ثم الاستسلام.
***
لذلك أحياناً أتساءل لماذا نسير في اتجاه مضاد للحضارة، فهل السبب أننا ننتمي إلى عالم آخر له خصوصيته وعالمه الخاص، يختلف في كل شيء عن بقية الأمم، ويستمر في ممانعته المزمنة ضد الاستفادة من العالم الآخر، وإذا كان الأمر ليس كذلك فلماذا إذن نضرب بعرض الحائط بما توصل إليه مفكرو وعلماء وفلاسفة القانون...، وبإيجاز لا حل إصلاحي بدون احترام لسمو القانون، و أن يمر من خلال بوابة فصل السلطات، لأن القانون أو اللجنة القضائية أو القانونية يفقدون تماماً حياديتهم إذا كانوا خاضعين للسلطة الإدارية أو لتصديق معالي الوزير أو موافقة المدير العام لأحكام أو لرفع القضايا أمام اللجنة القضائية..