يتوهم بعض قادة إيران أنفسهم سادة على المنطقة فيكلفون أنفسهم بضبط حركتها وإصدار أحكام قيمة على شعوبها وحكوماتها، بينما تعاني بلادهم نفسها من مشكلات لا يفكرون أصلا في إيجاد حلول لها، ويتجاهلون أن المواطن العربي يرى أيضاً ما يجري عندهم،
وينفر من حنانهم الكاذب وحبهم القاسي.
وقد كان بين آخر ما صدر عن قادة إيران حول أحداث الوطن العربي تلك التصريحات المؤسفة التي أطلقها « المرشد «، وسعت إلى طبع الحراك الشعبي المصري والتونسي بطابع إيراني، سرعان ما أتى الرد عليها من شباب مصر، الذين أدانوا أقواله وذكروه بمأساة الشعب الإيراني في ظل حكومته الحالية، التي تكتم أنفاسه وتفرض قيودا صارمة على عقله وروحه، وتجبره على ممارسة النفاق والكذب في كل شأن مهما كبر أو صغر من شؤونه، وتلزمه بوجهات نظرها في كل أمر، حتى أن إيران تبدو أقرب إلى المعتقل منها إلى دولة يعيش شعبها قيم الحداثة والعصر، ويتمتع بحد أدنى أو مقبول من الحرية والكرامة.
أخيراً، أطلق « المرشد « تصريحاً يقول إن الأيدي الأمريكية والصهيونية بادية للعيان في الأحداث السورية. لم يكلف المرشد نفسه الإتيان بأي دليل يؤكد كلامه، ولم يقدم تحليلاً يبين صواب تقويمه، وإنما اكتفى بإطلاق تصريحه في لقاء مع الحرس الثوري، ناشدهم خلاله صيانة وحدة إيران وعدم الانخراط في جدال مع الرئيس أحمدي نجاد، الذي أبقاه الحرس في السلطة على الرغم من إرادة الشعب عام 2009، وها هو يقر اليوم بأن انتخابه تم بالتزوير، بينما يتهم نجاد من جانبه حلفاءه السابقين وحماته بالفساد والإفساد، ويفضح قيامهم بعمليات تهريب واسعة النطاق ومنظمة، فلا يفكر أحد ولو مجرد تفكير في محاسبتهم، بينما يحاسبون هم الجميع ويتهمونهم، ويخضعون خصومهم داخل النظام المدني والعسكري لأشد أنواع البطش والرقابة، لذلك لا يبقى للمرشد ما يفعله غير رسم صور وهمية ومرعبة على جدران نظام طهران المتداعي، عل ذلك يتكفل بإنقاذه من غضب الشعب المسكين، ويوقف صراعات أجنحته التي تفاقمت حتى لم تعد تتوقف، بينما شل المتطرفون من قادة الحرس، الممسكين بكل شيء، الملايين من أنصار مرشحي الرئاسة موسوي وكروبي، وقاموا بعملية تزوير منظمة وعلنية سبقت الانتخابات الرئاسية بفترة طويلة، جعلت أولهما يخسر المنصب الذي يجمع كثيرون داخل إيران وخارجها على أنه كان الفائز به. وها هم متطرفو الحرس ينتقلون إلى تهميش نجاد، الذي ما أن أعلنت نتائج الانتخابات المزورة، حتى بدأ يسدد ضربات ذات اليمين وذات الشمال لخصومه، فإذا بالضربات المعاكسة الموجعة، الكلامية والعملية، تنهمر عليه، لتجعل منه عميلا صهيونيا تارة، وجاسوسا لمنظمة مجاهدي خلق تارة أخرى، وتابعا للشيطان وكافرا في كل حين، فهو، حسب أقوال خصومه وأعدائه، يعيش على الخرافات وإشاعة الأكاذيب حول قرب عودة المهدي المنتظر، في إشارة واضحة إلى نفسه على الأرجح، بينما يهدده الحرس بالنيابة عن الإمام الغائب بالويل والثبور وعظائم الأمور.
في هذه المتوالية المتتابعة من عمليات التصفية، التي تطاول أركانا رئيسيين في النظام، ممن يتهمون بجميع أنواع الخيانات، ويوصفون بأكثر الكلمات بعدا عن الدين والأخلاق، من الذي سيكون الضحية التالية؟ أهي فوج جديد من ضباط الحرس الثوري، أم المرشد نفسه، أم أنصار أحد التيارين المحافظين المتصارعين، أم الخارج، حيث يعج العراق وسورية بعملاء الأمريكيين والصهاينة، كما يتوهم «المرشد «؟. أطرح هذا السؤال لأن التجربة علمتنا أن الأقل تطرفاً يسقط في النظم المغلقة والاستبدادية لصالح الأكثر تطرفاً، وهكذا دواليك، إلى أن يصل المجانين سياسياً إلى سدة الحكم، ويبدؤوا بتصفية من يكون قد بقى حيا من المواطنين العاديين، الذين لا ناقة ولا جمل لهم في أي صراع أو نزاع!
ليس مستغربا، ضمن الحال التي وصل النظام لإيراني إليها، أن نسمع في أي وقت باختفاء بعض المسؤولين، وإقالة أو موت بعضهم الآخر، وأن يعلن عن اعتقال أناس لا يعرف أحد مآربهم بالنيابة عن الذين لا يستطيع أحد اعتقالهم من أهل النظام، إما لأنهم في مواقع قوة، أو لأن دورهم لم يأت بعد، على غرار ما يقع دوما في بلدان تفتقر إلى الشفافية، يتواصل شعبها مع حكامها تواصل العبد مع سيده، فلا يعرف أحد ما يحدث فيها، وما يمكن أن تعيشه في أية لحظة، علماً بأن الجميع يعرفون أنها معرضة لجميع أنواع المفاجآت... غير السارة.
تدور معركة ضارية داخل السلطة الإيرانية، يحاول حكام طهران حجبها عن أنظار شعبهم بالتركيز على أسباب خارجية مزعومة ومبالغ فيها جدا لأي شيء يقع عندهم من جهة، والتأكيد على أن أوضاع إيران أفضل من أوضاع أي بلد آخر، وأنها تخلو من المشكلات، إلا تلك التي يفتعلها ضعاف النفوس، الذين هم على صلة مع الخارج وبالتالي عملاء له، ومن الحتمي مطاردتهم والقضاء عليهم، مهما ضاعت أرواح بريئة خلال ذلك، ما دام الأصل هو ما يسميه هؤلاء «الثورة «، التي لا تعني شيئا بالنسبة إلى المواطن المسكين غير الخوف والجوع والإذلال، بينما هي تعني بالنسبة إلى الحكام كل ما يتهم هؤلاء بعضهم بعضا به من فساد وقسوة وجشع وأنانية، وثراء.
يغادر نمط السلطة العربية، الشبيه بنمط السلطة الإيرانية، الساحة، تاركا مكانه لنظام بديل يتشكل تحت ضغط شعبي هائل. إن الخوف من تكرار هذا النموذج من التغيير في إيران نفسها هو الذي يدفع قادتها إلى الاختلاف فالتصارع فتبادل الاتهامات فالتصفيات التي لا تتوقف، كما يؤكد انفجار الخلافات العلني بين كبار المسؤولين فيها، وآخرها خلافات المرشد ونجاد . السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو : هل تنجو إيران بتصدير مشكلاتها إلى الخارج، أم بتحميل الآخرين وزر أخطاء قادتها، أم بالهرب منها ورميها على كاهل غيرها، أم باتهام شعوب كاملة بالعمالة، لمجرد أن حراكها وتمردها يرعبها؟ إنها لن تنجو بالتأكيد، ما لم تراجع حساباتها بدقة وصدق، وتفهم أن نموذج حكومتها مرفوض من شعبها المغلوب على أمره والشعوب العربية، وأنها يجب أن تجد طريقة تتحدث من خلالها إلى ناسها دون صلف أو تجبر، وإلا فإنها ستكون بالتأكيد الضحية التالية لأخطاء قادتها ونظامها المتراكمة، التي ستقضي في مدى منظور، كما يقدر كل من يعرف أوضاعها من خبراء ومراقبين، على نظامها: القديم والمتآكل الذي فات زمانه!
kilo.michel@gmail.com