ما أجمل أن تسرح بذهنك دقائق وتسبح في بحر الخيال وتتذكر بعضاً من المواقف التي مرت بك حلوها ومرها، ومن ذلك طفولتك وبراءتها والحارة والأصدقاء. بالتأكيد ستظهر لك أحداث تتزاحم، فالإنسان بطبيعته يميل لمدح الذات ويرى نفسه من زاوية الأفضل ويرسم لشخصه أجمل ما يرى أو ما يتذكر والمواقف كثر، وقد يكون منها السعيد، والآخر ذا طابع حزين ومنها من يبين شخصيتك وتخشى أن يطلع عليه أحد، ومنها ما هو منزوٍ في الذاكرة ولا تحبذ تذكُّره أبداً بمعنى آخر.. كل إنسان لديه كتاب كبير داخل ذاكرته يحكي حياته بجميع جوانبها، فالجوانب الحسنة منها دائماً ما تتصدر الصفحات ويستشهد بها في كل المواقف خصوصاً عند التحدث عن الذات وله الحق في ذلك إذا كان ذلك حقيقة في وقتها المناسب، وهذا ليس بمستغرب عزيزي القارئ كوننا أناساً أسوياء نحتاج من وقت لآخر لهذه الحالة، وما أجمل أن يكون التذكير من الآخرين قبل التذكر من صاحب المواقف (وبالطبع فكل إنجاز تقوم به وتنجزه بالشكل الصحيح تتمنى وقوفه بجانبك يساندك في جميع المواقف ويقف شامخاً أمامك في كل المعضلات والعكس صحيح، فالأعمال السيئة نتحاشى الحديث عنها ونطوي صفحاتها بسرعة دون توقف).الأشخاص من ناحية التذكُّر يختلفون فمنهم من يتذكَّر بنشوة وافتخار كل ما مر به ويعرف حق المعرفة أن الحياة مملوءة بالحسن والسيئ كمثل البحر يحمل بين طياته الغث والسمين.
ومنهم من يمارس جَلد الذات عندما يتذكر الماضي، فيبدأ يتذكر سقطاته ويتعمق في تفاصيل التفاصيل ويستحضر الأحداث حتى يصل إلى مرحلة الوسوسة وربما يتجه إلى عصر الذهن والجنون، وهذا ما لا أتمناه لك عزيزي القارئ، فالمؤمن دائماً يحسن الظن بالله تحقيقاً لما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: (أنا عند ظن عبدي بي).. ولا يكون متشائماً أبداً ولا يجعل ما مر به من مواقف هو نهاية الحياة بالنسبة له وإنما ينطلق ويسترجع، فالحياة محطات وليس السعيد من تذكر فقط وإنما تذكر واعتبر، إن كان خيراً فرح واستمر، وإن كان شراً ندم واستغفر، وهذا يُذكّرني ببيت من الشعر لشاعري المحبوب أبي الطيب المتنبي إذ يقول:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
وصدّق ما يعتاده من توهّم
عندما تتذكر أو تستجدي أو تستحضر موقفاً ما فإنك تستمتع بالأحداث، فعملية التذكُّر تمر بمراحل وآلية معقدة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ومن المفيد في ذلك هو مصاحبة التذكر لحوارات النفس فهنا تكمن الفائدة من وراء نعمة التذكر التي هي هبة وهبها الله للإنسان، فالفرق بين الإنسان والحيوان في هذا الجانب هو تحكيم العقل فيما مر وأخذ المفيد منه ونبذ غيره، فخبرات الإنسان منذ الخليقة الأولى وهي تتطور وتتقدم بسبب تفعيل هذا الجانب من الذاكرة، فلنبتهل إلى الله سبحانه وتعالى ونشكره على نعمة التذكُّر.