لم أكن أتوقع أن أقف مع هذا الكتاب وقفة طويلة للقراءة والتأمل، فقد أوحى إليَّ عنوانه بأن تعاملي معه سيكون تعامل من يريد أن يطَّلع على عمومياته، ولكنني حينما قرأت عناوين أبوابه وفصوله شعرت بأنه كتاب مثير، جاذب للنفس، وحينما دخلت إلى عالم معارفه ومعلوماته وجدت فيه ثراء في جانب مهم من جانب العلاقات الدولية للدولة الإسلامية، إنه كتاب: «تسليم المطلوبين بين الدول وأحكامه في الفقه الإسلامي» لمؤلفه الأستاذ «زياد بن عابد المَشْوخي» الصادر عن دار كنوز إشبيليا في الرياض.
إنه كتاب يندرج تحت تخصص «الفقه الإسلامي» وهو صادر في سلسلة الدراسات الفقهية، ولكنه يمس جوانب متعددة من العلاقات الدولية سياسياً وأمنياً، ويوضح مدى الثراء في فقهنا الإسلامي، والتنوع في دراساته ونظمه، ومجالاته، فإذا علمنا أن أصل هذا الكتاب رسالة ماجستير نوقشت في كلية التربية، قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الملك سعود، أدركنا قيمة معلوماته لما تحظى به الدراسات الجامعية من توثيق وعلمية وموضوعية في المناقشات وطرح الأفكار.
لفت نظري ما في الكتاب من معلومات إسلامية غنية في تحديد مفهوم المجرم والمطلوب للعدالة، وكيفية تسليمه، ومحظورات هذا التسليم، وطريقة التعامل مع هذا المضوع من خلال شروط الاتفاقيات الثنائية والإقليمية، والدولية، وعلاقة هذا الموضوع بسيادة الشريعة الإسلامية في الدولة المسلمة، وسيادة الدولة المسلمة نفسها، وتأكيد محاربة الإسلام للجريمة بأنواعها المختلفة وتعاونه للقضاء عليها، وتحقيقه للعدالة والإنصاف فيها بصورة تميزه تمييزاً واضحاً عن الأنظمة الوضعية، كما لفت نظري ما في الشريعة الإسلامية من رعاية شاملة لحقوق الإنسان، وشخصيته حتى وهو في دائرة الاتهام، وهو جانب مهم أفاض فيه الفقهاء قديماً وحديثاً، ووضعوا له معالم صالحة للتطبيق من قبل الدولة الإسلامية العادلة المنصفة.
لقد استوقفني الفصل الأول من هذا الكتاب وهو بيان لمصطلحات عنوان البحث، وفيه تعريفات لغوية دقيقة، وإشارات بيانية جميلة، ومقارنات بين معاني المصطلحات المتشابهة في لفظها أو في دلالاتها ومعناها، ومن أمثلة ذلك تعريف التسليم لغة، وبيان ما يتصل به من الألفاظ التي تدل على معاني متعددة، فللتسليم معانٍ متعددة، منها البراءة من الشيء، يقال تسلَّم منه أي تبرَّأ، ومنها ترك الشيء، مثل أسلمتُ هذا الأمر لفلان أي تركته له، ودَفْع الشيء، ومنها الخذلان، مثل أسلم فلانٌ فلاناً، أي: خَذَله، ومنها خلاص الشيء لصاحبه، فيقال سَلِمَ هذا المال لفلان أي أصبح له خالصاً دون سواه. ومنها القَبْض، فمعنى تسلَّم فلان المال: قبضه ومنها: سلَّمت الدولةُ فلاناً إلى دولة أخرى: أي تخلَّت عنه، ودفعتْه إليها، مع بيان الفرق بين التسليم بهذا المعنى، وبين الإبعاد، فالتسليم يكون لصالح الدولة التي تطالب بالشخص، والإبعاد يكون لصالح الدولة التي تتخلص منه.
هكذا تظل الكتب كنوزاً يخرج منها الإنسان بفائدةٍ، إذا عُني بقراءتها، وتأمل ما فيها من المعلومات حتى وإن كانت بعيدة عن تخصص القارئ واهتمامه.
فصول هذا الكتاب تؤكد ثراء شريعتنا، وشمولية معالجتها لحياة المجتمعات البشرية من جوانبها كلِّها دون استثناء، كما تؤكد أهمية هذه الشريعة على الأنظمة والقوانين البشرية جميعها، لأنها أكمل منها وأشمل، وأصلح منها لإدارة شؤون العباد والبلاد، ولقد قرأت في الفصل الثاني من هذا الكتاب كلاماً عجيباً عن الضوابط الشرعية في مسألة المعاملة بين الدولة الإسلامية وغيرها، خاصة «المعاملة بالمثل» بما لها من ضوابط، وما فيها من محاذير، وهي ضوابط تستند على مبدأ العدل والإنصاف بصورة تتضاءل أمامها الأعراف الدولية التي وضعها البشر، لأن الأعراف الدولية لا تخلو من مراعاة مصالح خاصة يفرضها القويُّ على الضعيف، كما قرأت في الكتاب كلاماً جميلاً عن الفرق في الإسلام بين البغي والاعتداء باللسان وغيره، وبين حرية الرأي والمعارضة الراشدة الواعية، وهو فرق يؤكد أن مجال الحرية السياسية في الإسلام أوسع وأشمل وأكثر ضبطاً منها في النظريات والقوانين الوضعية جميعاً.
جزى الله مؤلف الكتاب خيراً على جهده الطيب المبارك.
إشارة:
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري :»من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة شرط».