عاشت الصحافة وما برحت عهوداً زاهية وهي تتمتع بقدر كبير من الحرية في الدول الديمقراطية المتقدمة، فلصاحبة الجلالة هيبة وسمو ومكانة عظيمة تستطيع بقوتها وتأثيرها أن تغير الخرائط والمناصب والقناعات.. فألم يقل الكاتب الروسي ليو تولستوي إن الصحافة هي: (بوق السلام، وصوت الأمة، وسيف الحق، وملاذ المظلوم، ولجام الظالم، إنها تهز العروش، وتزلزل المستبدين) ولذلك تعتبر السلطة الرابعة وأقلام كتابها وصانعيها كابوساً حقيقياً لأي مسئول يتأخر ويتقاعس في أداء واجباته تجاه الشعب.
ففي أمريكا مثلاً كتبت «سيندي شيهان» وهي ناشطة بارزة ضد حرب العراق في مقال شهير نشرته الصحافة الأمريكية على نطاق واسع: (اليوم، ها نحن نرى رئيس بلادنا المغرور، وهو بالمناسبة يتصف بغباء منقطع النظير يشترك مع قادته العسكريين الجبناء في إرسال أولادنا إلى الموت) تلك الجملة التي انتقدت فيها الرئيس بشكل لاذع دون أن يمنع المقال من النشر، بل دون أن تحاسب أو تعاقب!
المفارقة أن القانون هناك يسمح بتوجيه مثل تلك الألفاظ في الصحافة إلى أكبر مسئول في الدولة، ولكن في الوقت نفسه لا يتهاون إطلاقاً في الاعتداء على سمعة المواطنين والأفراد العاديين.
فلو أنك وصفت صديقك أو جارك أو زميلك في العمل بالغباء مثلاً ًعلى الملأ لاستطاع أن يقاضيك ويضعك خلف القضبان على نعته بتلك الصفة. العجيب أن القانون في الدول الديمقراطية بقدر تشدده وحزمه في حماية سمعة المواطنين العاديين يسمح بأقصى درجات النقد للمسئول، الفكرة هنا أن من ينتقد مسئولاً عامًا لا يكون دافعه شخصيًا وإنما غرضه الدفاع عن المصلحة العامة، والمسئولون في الدول الديمقراطية تعودوا على قسوة وحدة النقد، بل إنهم يعتبرونه جزءًا من أعباء المنصب العام.
يحكى أن الرئيس الأمريكي «ترومان» جاءه أحد وزرائه ذات غضب يشكو له قسوة الهجوم عليه من قبل الصحافة الأمريكية، فاستمع إليه الرئيس بهدوء ثم ابتسم وقال كلمة جرت مجرى الحكمة: (إذا قررت أن تعمل خبازاً فلا تشكو من حرارة الفرن).
كما في فرنسا جريدة أسبوعية تصدر كل أربعاء منذ عام 1915 اسمها «البطة المقيّدة» متخصصة في السخرية من كبار المسئولين في الدولة الفرنسية وكثيرًا ما يتم تصوير رئيس الجمهورية على هيئة حيوان أو امرأة في رسوم الكاريكاتير التي تنشرها، وقد كان الجنرال ديجول يضيق ذرعاً بسخرية هذه الجريدة لدرجة أنه لم يكن يحتمل قراءتها، فكان كل أربعاء يسأل وزراءه: ماذا كتبت البطة اللعينة عني هذا الصباح؟!
برغم من فسحة الحرية الهائلة في أوروبا وأمريكا، ومع تلك المساحة الشاسعة من حرية التعبير والنشر.. إلا هناك سلطة أعلى وأقوى هي سلطة القيم واحترام خصوصيات الأفراد، بمعنى أن لك الحرية أن تفعل ما تشاء دون أن تمس يدك أنفي.. ولعل الخبر الذي تناولته الصحافة العالمية مؤخراً باندهاش وذهول ومفاده: إغلاق جريدة «نيوز أوف ذي ورلد» البريطانية بعد 168 سنة من الصدور بسبب فضائح التنصت على هواتف محمولة لشريحة واسعة من السياسيين والمشاهير والأفراد العاديين ومنها التنصت على هاتف فتاة صغيرة (13) عاماً اختطفت ومسحت الجريدة رسائلها الصوتية التي كان بالإمكان استخدامها كأدلة جنائية تساعد في إلقاء الضوء على جريمة قتلها، خير دليل أنه مهما حلقت الصحافة لآفاق واسعة من الحرية فإن هناك حدودًا شفافة ودقيقة وحازمة قد لا تنتبه لها وهي في غمرة النجاح والتوسع والكسب المادي والإقبال الشعبي عليها بسبب أخبارها الحصرية وتفاصيلها المدوية.. تلك الجريدة التي كانت تعتبر «البقرة الحلوب» للشركة الشهيرة «نيوز كوربوريشن» في بريطانيا والتي يملكها إمبراطور الإعلام الأشهر روبرت ميردوخ هو نفسه يملك باقة من ألمع صحف الفضائح في العالم إلا أن الأخيرة ارتكبت جرماً عظيمًا لا يغتفر بحسب المجتمع البريطاني.
ومن هنا يبرز المعنى الأهم وهو أن الحرية تلك الكلمة البراقة، قد تصبح فوضى أخلاقية لا إنسانية إذا أسيء استعمالها، فكأنك تعطي طفلاً أو سفيهاً سكيناً ليلهو به، فيقتل نفسه أو يقتل الآخرين.
نبض الضمير:
يقول الأديب عبدالله بن خميس - رحمه الله -:
ذات الجلالة ما تسامت سلطة
إلا وفوق سموّها سلطاتها
من لي بها فصحى الحقيقة طلقةً
فوق الرقيب تكون حرّياتها