يُقال إن للحب سطوة كبيرة على العرب، وللحسن والجمال عليهم سلطاناً. كما يُقال إن العرب لديهم استعداد للتطرف إن أحبوا وإن كرهوا. وبعيداً عن التعميم الخاطئ فإن التطرف، أياً كان، يعكس انفلات العاطفة من رباط العقل. والحب الجارف يعمي المحب ويشل قدرته على تقدير غير مَنْ يحب. ولعل لصفاء سماء الصحراء وسطوع أقمارها
وكواكبها وتباعد آفاقها أثراً في جعل العرب أكثر رومانسية وعاطفية، والمقصود هنا ليس رومانسية الإتيكيت والشموع في مفهومها الغربي بل رومانسية العاطفة التي تتملك الجنان وتستحوذ عليه بشكل كامل.
وقد صنف العرب درجات للحب بكلمات تتصاعد حسب قوته منها: الاستحسان، والحب، والعشق، والغرام، والهيام، وآخرها الجنون، ومَنْ منا لا يعرف قصة مجنون ليلى التي أصبحت إحدى أساطير الحب، ليس لدى العرب فقط بل لدى الفرس، والتركمان، والكرد وغيرهم. والهيام، الدرجة التي تسبق الجنون، معناه الضياع وتشتت الذهن لاستيلاء صورة المحبوب على ذهن المحب. وما زالت النساء في عالمنا العربي حتى اليوم يعتقدن أن النساء قادرات على سحر الرجال، والجميع يعرف ما تردده بعض النساء عن وضع العمل السحري لربط الرجل، وفك العمل السحري، وما إلى ذلك من مثل هذه الخرافات.
والبعض يتهم العرب، رجالاً ونساءً، بأنهم عموماً وفي شؤون حياتهم كافة عاطفيون، ويرى أن لذلك انعكاساً على اللغة والفنون العربيتَيْن. فالغزل والتشبيب من أوسع أبواب الشعر العربي، الفصيح والعامي. ولم يكن العرب يرون غضاضة في تشبيب الشعراء ببناتهم، بل يعدون ذلك عملاً مرغوباً. وقد تطلب الفتيات من الشعراء، أو يتوسلن لديهم للتشبيب بهن، وكان الشعراء يهدون النساء القصائد، كما يهدونهن الهدايا، ولم ينظر لهذا الأمر على أنه خروج عن المألوف، أو أنه مخالف للأعراف والدين. وهناك قصص عن شعراء نظموا قصائد غزلية لنساء عربيات شهيرات تقربن منهم لمواقع السلطة. وقد ورثتنا كتب التراث الكثير من القصص العجيبة عن الحب والولع، وليالي الأنس والفرح. وعالم الغزل، والغناء، والسهر، والجواري في تاريخ العرب يدل على رومانسيتهم المتأصلة.
فالمحصلة أننا أمة قد تتطرف أحياناً عندما تحب، وهي قد تحب حتى تعشق، وتعشق حتى تهيم، وتهيم إلى حد الجنون، وهذا أمر لا بأس به إذا تعلق بعشق المرأة أو الوطن؛ فقد ينتج شعراً جميلاً، وخيالات مبتكرة طريفة، وقصائد غزلية مخلدة. وليت الأمر يقتصر على التطرف في حب المرأة أو الوطن، ولكن ما عسى أن يكون عليه الحال إذا تعلق هذا الحب بأمور أخرى مثل المال، والسلطة، وكان كذلك متطرفاً، ولم يكن لمن يعشقونهما أي قريحة شعرية؟ هنا تبرز الصورة المغايرة لجنون الحب العربي.
ما نشاهده اليوم من أمور عجيبة حقاً لا تحصل إلا في عالمنا العربي ليست إلا علامات جنون، سواء جنون حب السلطة أو عشق النفوذ والمال. فبعض المسؤولين العرب مثلاً، أو فلنقل أكثر من البعض، تتاح لهم فرص ذهبية لتعميق حبهم لأوطانهم فيحيلونها لفرص لتكديس المال، المال فقط، والمال من أجل المال. فهم لا يحبون المال فقط، بل يهيمون ويجنون بالمال، ويمكن أن يفعلوا أي شيء من أجل الحصول على مزيد من المال، مال قد يموتون هم وأولادهم دونما أن يستطيعوا صرفه. وهذا المال الذي يجمع يكون من جيوب إخوانهم في الوطن الذين يعميهم حب المال عن النظر بعطف إليهم ناهيك عن حبهم. وقد أضحى العالم العربي مضحكة للعالم الخارجي نتيجة لانتشار الغش، والرشوة، والخداع في كل شيء، وعلى أعلى المستويات.
مشاريع، وأمور حيوية لمستقبل البلدان العربية طالتها يد الطمع وجنون جمع المال. وتحولت بلدان عربية كاملة، وللأسف، إلى مزارع شاخصة للمشاريع المشوهة، والمبتسرة، بهدف اختلاس المال لتكديس المال فقط. ولا شك أن المال والبنون زينة للحياة الدنيا، ولا غضاضة في السعي للحصول على المال، ولكن تكديس الأموال، والحصول عليه بأي ثمن وبأي طريقة مرض وجنون.
أما الحب الآخر القاتل المعمي فهو جنون السلطة، ذلك الجنون الذي يقود للتشبث بها بأي ثمن حتى ولو أدى ذلك لتدمير الأوطان بالكامل، وهذه وللأسف سمة أخرى من سمات التاريخ العربي الحديث. فكثير من الحكام العرب وصلوا للسلطة من باب حب الوطن، وبوعود وردية قد تكون وعوداً صادقة في بداية الأمر، وعود بالبناء، والعدل، والحرية.. ولكنهم بمجرد التربع على كرسي السلطة يقعون في حبها، وبدلاً من أن يسيطروا عليها تسيطر عليهم؛ إذ إنهم بمجرد أن يستووا على كرسي السلطة يحيط بهم المنافقون وعشاق المال والنفوذ؛ ليجملوا هذه السلطة للحاكم، ويخلقوا له صوراً لذاته معظمها تتجاوز بكثير واقعه الحقيقي، فلا يلبث الزعيم أن يصدقها، ويبدأ بإضفاء الألقاب على نفسه؛ فينتج من هذا التزاوج بين السلطة المطلقة وعظمة الذات خليط مدمِّر، تصبح معه السلطة هي الوطن، وإرضاء الإحساس بالعظمة سياسة معلنة، هكذا كان صدام، والقذافي، ونيرون، وستالين، وهتلر وغيرهم.
فالرئيس أو الزعيم يصل إلى كرسي السلطة من العدم، إما ضابطاً صغيراً، أو شاباً يافعاً، وبمجرد التزاوج بالسلطة يتحول إلى أسطورة، ومفكر، ومحرر، وزعيم، على شعبه أن يعشقوه لا العكس. ويتحول حبه للسلطة تدريجياً إلى عشق، ثم هيام، ثم جنون، ويتحول حبه لذاته إلى جنون عظمة. وما نراه اليوم من حولنا من تمسك أعمى بالسلطة بالرغم من انتشار الموت والدمار في كل مكان ما هو إلا جنون، جنون عربي بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فبعض هؤلاء الزعماء منحوا وعوداً بالعيش الرغيد الكريم بعد التخلي عن السلطة حقناً للدماء وصوناً للأوطان، وشعوبهم عبَّرت بما لا يدع مجالاً للشك عن أنها لا تريدهم، إلا أن غواية السلطة تُنسي الزعيم حبه لوطنه، أو حرصه على الحفاظ على دماء وأعراض أبناء جلدته، فهي غواية أقرب للسحر. فالزعيم، بمجرد الوصول لكرسي السلطة، يعمل له عمل، كما تقول عامة النساء في مجتمعاتنا، عمل ينسيه كل شيء إلا جنون السلطة؛ لأنه بمجرد الجلوس على كرسي السلطة يستحيل أن يتركه.
latifmohammed@hotmail.com