قضية الفساد الإداري والمالي بكل أنواعه وصنوفه أصبحت ظاهرة علنية في الوطن العربي من خليجه إلى محيطه، وأصبح الثراء الفاحش غير المعروف مصدره لبعض المسؤولين في أجهزة القطاع العام واضحاً للعيان، ولا يمكن لهم أبداً الفوز بهذه الثروات الطائلة من دون استغلال نفوذهم الوظيفي أسوأ استغلال، وهم الذين يشهد الكثيرون
بأنهم لم يكونوا يوماً من أصحاب الثروات، ولم يعرف عن آبائهم أو آباء آبائهم أنهم ملكوا يوماً ثروات كبيرة تكفي لشراء منزل متوسط، دعك من القصور واليخوت والطائرات.
إن الوظيفة أمانة وكُلف بها شاغلوها لخدمة الناس، ولكن للأسف كثيرون يستغلونها لمصالحهم الذاتية دون مراعاة لحقوق المواطنين، يعطون من لا يستحق ويمنعون من يستحق، يدعمون القوي ويظلمون الضعيف.
إن الرشوة ظلم وأكل حرام وإفساد في الأرض، وآكل الرشوة إنما يأكل في بطنه ناراً، وهو ملعون في الدنيا والآخرة، عن ثوبان الهاشمي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما) رواه أحمد.
وفي زماننا هذا فقد ماتت للأسف بعض الضمائر، وضعف الخوف من الله، وساد حب النفس والأنانية فشاعت الرشوة وانتشرت المحسوبية وعمَّ الفساد واستغل كثير من أصحاب النفوذ نفوذهم لا يفرّقون بين حلال وحرام يأكلون أموال الناس بالباطل، وينهبون المال العام دون أن ترتجف لهم يد، وبهذا المال الحرام أصبحوا أصحاب كلمة وسطوة.
إن الرشوة ظلم والمحسوبية ظلم والواسطة ظلم (والظلم ظلمات يوم القيامة) رواه مسلم، بل هو ظلمات في الدنيا أيضاً، فالمفسد يأخذ من الضعيف ليعطي القوي ومن الفقير ليعطي الغني ومن العاجز ليعطي القادر.
إن كل القوانين التي صيغت لمحاربة الفساد والقضاء على مثل هؤلاء الفاسدين اُحتيل عليها ولوي عنقها بأسلوب يفوق صياغتها فأصبحت حبراً على ورق، وأصبح الفاسدون ينفّذون خططهم في الاستيلاء على المال العام وإرهاق عاتق المواطنين في الرشاوى جهاراً نهاراً، لأنهم ضمنوا غياب الرقابات وأمنوا من العقاب (ومن ضمن العقاب أساء الأدب) كما يقال.
إن المجتمعات تغوص متعمقة كل يوم في مستنقع الفساد الآسن، إنه يتغلغل تغلغل الحية الرقطاء، بين الأفراد والمجتمعات بل وحتى الدول، والعجيب أننا - أفراداً ومسؤولين وإعلاماً - نتحدث عن الفساد والإفساد كأنه مخلوق خرافي أتى من عالم آخر، أو كأنه كائن هلامي أتى من الفضاء، بينما حقيقة الأمر أن الفساد هو: رغبات بعضنا وأنانيتهم وأفعالهم ونياتهم السيئة، وصدق الله القائل: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) الروم -الآية 41.
ذلك أن الأنانية البغيضة والنرجسية الكريهة والطمع والجشع وقساوة القلب، وحب الدنيا، والشغف بالملذات وحب الشهوات، وجفاف النفس من العواطف الإنسانية النبيلة، وخلوها من المشاعر السامية الرقيقة، هي التي تؤدي إلى الفساد، وظلم العباد للعباد، دون وازع من دين، أو رادع من ضمير.
إن الفساد قد انتشر وعمَّ في عالمنا العربي، حتى جرى في الطرقات كمياه المواخير، وطفح وارتفع حتى غطى مباني كانت عالية وصروحاً كانت سامية وفاحت رائحته - ولا نقول حتى أزكمت الأنوف، بل نقول حتى اعتادتها الأنوف فما عادت تشمئز منها كثير من النفوس أو تعافها.
صورة سوداء قاتمة بل مخيفة هذه الصورة التي نراها في عالمنا العربي والإسلامي عن الفساد، صورة تدعو للقنوط من القضاء عليه وإصلاح الحال، فبالفساد ضاعت الحقوق، واستشرى الظلم، واستحلت الرشوة، وتقلد الفاسدون والمفسدون المناصب وهضمت حقوق الفقراء، ونهبت الأموال العامة، وضعف نسيج الترابط الاجتماعي، وانتشرت بين الناس الإحن والأحقاد، وجارت الأحكام ومالت بها الأهواء والمصالح.
إن الحال لو استمرت على هذا المنوال فسيكون المآل أسوأ مآل، فإن الفساد سيكون أكثر انتشاراً وستقوى أياديه ويصبح أكثر قدرة على إنفاذ أمره في كل ساحة وعلى كل أحد، حتى لا تكون الحياة إلا بمجاراته أو الخضوع له، وحينئذ يكون باطن الأرض خيراً من ظاهرها.
أعرف أن محاربة الفساد في البلاد العربية والإسلامية تحتاج إلى جهد وشجاعة ومقاومته في غاية الصعوبة ولكن لا أقل أن نفعل مثل الصين التي طبقت أقسى العقوبات على كل من ثبت أنه ارتشى أو أفاد من موقعه الوظيفي أو السياسي، وهي دولة لا دينية، ونحن أولى أن نقاوم الفساد بالشدة منهم، فنحن أهل الإسلام وبنو الطهر والعفاف والعدل، فلا كبير أمام الشرع والقانون، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح فقالوا من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فيها أسامة بن زيد فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أتشفع في حد من حدود الله) فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله. فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: (أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها) رواه مسلم.
ونحن والله مهددون بالهلاك إلا إذا بلغنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم (والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
فهل فينا من الشجاعة والعزيمة ما يبلغ بنا هذا المرتقى أم أننا استسلمنا ننتظر الهلاك؟
رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الإستراتيجية
dreidaljhani@hotmail.com