2 - اللغة المغرِّدة.. وأسرار العزف الأنيق
1-2 إضاءة:
« وها أنتَ كالحزنِ
تنداحُ تنداحُ دون انتهاء
وبيني وبينك هذا الضباب الجميل
محمد العلي
2-2 تنوير:
أنتِ وعدٌ ويقينٌ فائرٌ
في قصيدٍ عسْجديٍّ سبكهْ
نسيان يستيقظ-88
3-2 بيان:
انسياقاً لسلطان الشعر القاهر وانجذاباً لفتنته الآسرة يضع شاعرنا بيننا وبين حزنه المنداح - أو إن شئتَ: غضبه الموّار - هذا الضبابَ اللغوي الجميل، وعبثاً تحاول البحث عن أسرار هذه الأناقة التعبيرية التي تحتضن هذه التجربة الشعرية؛ أهي في هذا الانسياب المتدفّق للجُمَل الشعرية دون حُبسة أو تعثّر في الصياغة يُربك القارئ ويستلّ خيوط القصيدة من بين يديه؟ وهو العيب الشائع جداً في التجارب الشعرية الحديثة؛ حتى عند أسماء مشهورة في الوسط الشعري المعاصر، أهي في تلك الفخامة الإيقاعية التي تشعر بها وأنت تقرأ كلماته المحفورة في جسد القصيدة، وكأنما هي وقْع حوافر الخيول العربية على رمال الصحراء الممتدّة في أعماقك: لغةً وتاريخاً وانتماءً، فإذا بك تطرب لرنين كلمة نادرة الاستعمال في الشعر الحديث قد انتُقيت من عذوق اللغة التراثية كما تُنتقَى أطايب التمر؟ أهي في هذا التناصّ المحسوب بدقّة ودون إسراف مع النصّ القرآني الكريم أو الحديث الشريف: (عجِّل لنا قِطّنا إنّا على سفَرٍ... ويل امِّهم مُوقدو مجدٍ لو اتّقدتْ لهم رجالٌ...)، وهو التناصّ الذي يرِد في موضعه المناسب من قصيدة حماسية ذات نبرة عالية الإيقاع؟
الأناقة اللغوية هي خاصية فنية صميمة لا يمكنك إنكارها عند هذا الشاعر، قد تختلف معه فيما تحمله بعض قصائده من رُؤى، وقد تتمنّى لو خفّف من مساحة التعبير الشعري ذي النبرة العالية مُفسحا المجال أكثر للشعر الإنساني الهامس - وهي مسألة سيأتي الحديث عنها لاحقاً - ولكنّ هذا أو ذاك لن يُغيّر من تقديرك لهذه السِّمة الفنية في شعره؛ خاصةً أنّ شعره الأحدث يشهد انفتاحاً واضحاً على التقنيات التعبيرية الجديدة التي تنتهجها التيارات الشعرية الحديثة. وأن يجمع الشاعر بين تلك الأناقة اللغوية وهذا الانفتاح الفني على الرُّؤى والتقنيات الشعرية الحديثة هو أمر يكاد يكون نادراً في الوسط الشعري السعودي المعاصر، ويحضرني هنا اسما شاعرين سعوديين آخرين يُشاركان شاعرنا في هذه الخاصية، وينتميان - تقريباً - للجيل الشعري نفسه الذي ينتمي إليه الشاعر، وهذان الشاعران أو بالأ حرى الشاعر والشاعرة هما: جاسم الصحيح، وأشجان هندي؛ هذا مع تميّز كلٍّ من هؤلاء الشعراء الثلاثة بلمسته الخاصّة في هذا الجمع الفريد بين الصياغة اللغوية الأنيقة ذات النفَس التراثي واستيعاب الرؤية الشعرية الحديثة.
ومع كلّ هذا فإن الأناقة اللغوية التي يمتاز بها هذا الشاعر لم تكن في صالحه دائماً، فأنت تشعر أحياناً أنه يتخلّى عن دقّة التعبير من أجل جمال الديباجة وفخامة الأسلوب، والأمثلة - على قلّتها - في هذا الديوان قد تُحوجنا إلى كلام كثير؛ ولكني أكتفي هنا بمثال واضح يتمثّل في بيت مفرد لم يرِد في ديوانه الأخير موضع القراءة، بل جاء فاتحةً لديوانه الثاني: حروف من لغة الشمس، وهو قوله:
أراد نِطاسيٌّ ليأخذ من دمي
فلمّا أمرّ المِشرط انبثق الشعرُ
لاحظْ أولاً أنه قال: نِطاسيّ، ولم يقل: طبيب، وفضّل لفظ: المِشرط على لفظ: الإبرة؛ مع أنهما بوزن واحد، ومع أنّ لفظ الإبرة - وهذا هو الأهمّ - أدقّ تعبيراً عن واقع الحال؛ ذلك لأن « أخذ « الدم إنما يكون بوخز الإبرة، وليس بإمرار المِشرط أو المِبضع، ولكنْ لمّا كانت الإبرة أقل فخامةً وأكثر اعتيادية من لفظ: المشرط تجنّبها وفاءً لأناقته اللغوية المعهودة؛ وإن جاء ذلك على حساب دقة التعبير عن واقع الحال!
وفي المقابل فإنّ حسّ الأناقة يضعف أحياناً عند الشاعر، فنجد لديه مثلاً تكراراً ثقيلاً لمادتي: اللغط والجمر ولصوت: الغين في بيت واحد بصورة تذكّرنا بجناسات أبي تمّام المشهورة؛ تأمّلْ قوله من قصيدة: وجه يتكرّر:
أوقدن من عينيه جمراً لاغطاً
وغدون في لغط اللهيب مجامرا
ومثل هذا التكرار يحدث أيضاً في قصيدة أخرى في الديوان، وهي قصيدة: إلى ذباب رقيع؛ إذْ يكرّر الشاعر كلمة: شذاها في بيتين شبه متجاورين، ولا يشفع لهذا التكرار اختلاف المقصود بالشذا في الموضعين. على أنّ هذين المثالين السابقين يُمثّلان في الحقيقة الاستثناء الذي يؤكّد القاعدة المطّردة على امتداد قصائد الديوان، وهي أناقة التعبير والتمكّن الباذخ من ناصية اللغة الشعرية.