كثيرة هي تلك المسائل التي أعيت العلوم الاجتماعية والإنسانية، ومنها مسألة «الهُوية»، نظراً لمكوناتها المعقدة وتقلبها الشديد في أطوار مختلفة وطبقات متداخلة متخارجة، والعجيب أن الهوية تبدو لمن يفكر بها أنها خاضعة لفهمه،
بل ومستسلمة لحواسه وتأملاته وقراءاته، في حين أنها على الحقيقة ليست كذلك، فهي مراوغة إلى حد كبير، الأمر الذي يدفع باتجاه التفكير المستمر في كيفية تطوير مصطلحات ونماذج ذات قدرة تفسيرية مربوطة بحزمة من الأدوات التي تعيننا على استكشافها وقياس بعض أبعادها في السياقات المختلفة.
ومن خلال تجربتي البحثية المتواضعة في العلوم الاجتماعية والإنسانية أدركت أن كثيرا من المفاهيم والنماذج المركبة والمعقدة التي نبلورها لتعكس ظواهر ومسائل اجتماعية وإنسانية هي بحاجة ماسة إلى «مداخل مبسطة» أو لنقل تلقائية: أيّ أنها ملتقطة من التدفق والحراك الطبيعي للحياة، دون أن نلفها بنظرات نتوهم أنها «معمقة» وهي في حقيقة الأمر نظرات مشوشة تلوذ بالتعقيد والتركيب الذي يخفي عجزنا عن ملاحقة الظواهر والمسائل الاجتماعية والإنسانية وتفهمها بشكل «معمق مبسط». ولذلك ُيقال بأن من لا يملك الحقيقة فعليه أن يقول كثيراً كثيراً.
هذه مقدمة مختصرة تجعل القارئ يختار فيما إذا كان يشاطرني هذا الرأي على نحو ما، ومن ثم فإنه يتشجع لإكمال هذا المقال المختصر. أعود إلى مسألة الهوية لأقول بأن ثمة نماذج عديدة تم تطويرها من قبل الباحثين لتفسيرها واستكشافها وقياس بعض أبعادها، ولكنها تفشل في تحقيق نتائج كبيرة ومتماسكة لأسباب كثيرة، قد يكون من ضمنها السبب الذي أومأت إليه. ويهمني هنا الإشارة إلى أن المداخل المبسطة تعين على تيسير عملية الاستكشاف والقياس لتلك المسألة المعقدة والخلوص ربما إلى نتائج أو أبعاد جديدة، بل قد تقودنا -فيما أحسب- إلى تطوير نماذج أكثر تفسيرية. لعلي أضرب على ذلك مثالاً واحداً لإيضاح الفكرة.
ذات يوم كنت أتحدث فيه مع شاب مغربي هولندي أو لنقل هولندي من أصل مغربي؛ في حديث تلقائي عفوي عن جملة من المواضيع التي تعني الشباب العربي المهاجر، وفي ثنايا الحديث مررنا على الرياضة التي كان بارعاً في تفاصيلها وفعالياتها، لا سيما في المشهد الرياضي الأوربي، وبشكل مفاجئ قال لي: إنه لو تقابل المنتخبان المغربي والهولندي فإنني سأشجع «هولندا»، وفي تلك اللحظة اشتغل ذهني على هذه المقولة التي لم يلق لها صاحبي بالاً، حيث ربطتُها مع «الهوية»، مما جعلني استوقفه بشيء من الفضول الذي لا يثير حساسية لديه لتفادي أي تأثير عليه، فقلت له: جميل، ولمَ؟.. فقال دون تردد: لأن «هولندا» -وليس المنتخب الهولندي- قد منحتني كل فرص النجاح في الحياة، وعاملتني باحترام كإنسان له ثقافته وطموحاته واحتياجاته. ثم سألته: كم نسبة الشباب المغربي الساكن في هولندا يفعل فعلك؟.. فقال: بحدود..، فقلت له هذه نسبة كبيرة، فقال: نعم وربما تكون متزايدة!.
تلك الزاوية قد تبدو ساذجة لدى البعض؛ وأعني بها سؤال الشباب العربي المهاجر عن أي المنتخبين سيشجع، منتخب بلده الأصلي أم منتخب بلده الذي اختار طواعية أن يحمل جنسيته؟ وفي رأيي أن زاوية كتلك ليست ساذجة على الإطلاق؛ فعملية التشجيع للمنتخب تعكس مستويات متجذرة ليس من «الانتماء» فحسب بل من «الولاء» أيضاً. وهنا يلزمنا التمييز بين الانتماء والولاء. الولاء هو الأعمق، وهو الذي يشكل تحدياً كبيراً أمام الدول قاطبة؛ فالانتماء للأرض يحصل من مجرد سقوط رأس أي إنسان في تلك البقعة، فيُنسب لها؛ في صلة «قرابة جغرافية»: بين قطعة أرض وكتلة لحم؛ أما الولاء فهو يتجاوز الأطر الجغرافية الضيقة؛ ذلك أنه معنى متعالٍ على «القرابة الجغرافية الحتمية»؛ فهو اختيار يشكّله الإنسان بقدر وشكل ما؛ يحدده هو لا غيره، وهو مركب ديناميكي يكوّنه الإنسان في سياقه الاجتماعي والثقافي والسياسي في عملية استبطان داخلي لمجموعة من العمليات والأحداث التي تعبر عن طريقة تعامل «دولته» معه، ومقدار الحقوق والامتيازات «الحقيقية» التي يحظى بها في إطار يرى بأنه محقق لمستوى مقبول من التكريم لإنسانيته والعدالة الاجتماعية الواجبة. والولاء هو الغاية وليس مجرد الانتماء.
ليس ساذجاً السؤال الذي يوقفك على الانفعالات الجوانية التي تتموج داخل وجدان الشباب العربي المهاجر إزاء الفريق الكروي لبلده الجديد؛ الذي يتمنى أن ينجح في «سحق» الفريق الأخر وتمزيق شباكه ورميها بـ «الخيبات».. إذن يمكننا القول بطمأنينة معقولة بأن التشجيع لا ينصرف لأمور رياضية بحتة، فهؤلاء الشباب لم يشجعوا المنتخب الهولندي لأنه أفضل من الناحية الفنية، بل لطبيعة العلاقة الحميمية بينهم وبين ذلك البلد الأوروبي الذي نجح في غرس ليس مجرد الانتماء بل الولاء المتجذّر في نفوس عدد من الشباب العربي، وذاك أمر يستحق التنويه والإشادة؛ في وقت نتوهم في العالم العربي أننا بارعون في غرس الولاء بكميات كافية للاستقرار والسلم الاجتماعي!.
أعود لصلب الموضوع مؤكداً على ضرورة التفكير باتجاه إيجاد مداخل مبسطة لاستكشاف الهوية وغيرها من الظواهر والمسائل الاجتماعية والإنسانية. وتجدر الإشارة إلى أنه قد يكون هذا المدخل (السؤال عن الميول الرياضية) مستخدماً في الأدبيات العلمية، حيث إنني لست مطلعاً عليها بشكل مفصل، ولا يعنيني ذلك، بقدر ما يعنيني أصل الفكرة التي أود توضيحها، راجياً أن تسهم في تقليل «ثرثرة» العلوم الاجتماعية والإنسانية، واقترابها من تصنيع أدوات تكشف لنا الحقائق بشكل مبسط ومعمق في الوقت ذاته.
beraidi2@yahoo.com