من أجل أن يستطيع أي كائن سياسي ليّ ذراع السلطة، أي سلطة، كي يتمكن من تحقيق مصالحه وغاياتها، فإن من المفترض بديهياً أن تكون السلطة ضعيفة، أو متضعضعة، والرياح تجري ضدها لا معها، وليس لديها من الوسائل والأدوات (العملية) ما تواجه به مثل هذه الضغوط. لكن عندما تكون السلطة قوية، وقادرة على الصمود، وعدم الإذعان للضغوط، فإن مثل هذه الممارسات والمواجهات ستزيد حتماً من قوة السلطة بدلاً من أن تُضعفها، وهذا ما لا يدركه كثير ممن تحدوا سلطات بلدانهم، خاصة مما لا يتعدى فهمهم في السياسة ومتطلباتها ومعرفة تفاصيلها فهم الإنسان البسيط الساذج.
في عهد مارجريت تاتشر حاول عمال المناجم في أواسط الثمانينيات من القرن الماضي لي ذراع الحكومة البريطانية من خلال الإضرابات المتوالية، لترضخ الحكومة لمطالبهم؛ غير أن تقدير زعماء النقابات لقوة تاتشر، وكذلك الظروف السياسية آنذاك، كان خاطئاً، فقد كانت بريطانيا في أوج قوتها، ويتربع على قمة سلطتها التنفيذية امرأة ذات بأس شديد، وعزم وحزم لا يتزحزح؛ لم تأبه تاتشر إلى إضرابهم، الذي كانوا يهدفون منه إلى تعديل برامج مجلس الفحم الحجري القومي الخاصة بإغلاق المناجم، ودخلَت معهم في عملية كسر عظم؛ استمرّ العمال في الإضراب قرابة العام، وتاتشر لم تلتفت حتى لأصواتٍ من حزبها تحثها على التجاوب لمطالبهم، وقد وضّحت ذلك بقولها: (إن صبري غير عادي، وسوف أحقق ما أريد)؛ وفي النتيجة استطاعت هذه المرأة الحديدية العنيدة أن تُخلص بلادها، واقتصاد بلادها، واستقرار بلادها، من (ابتزاز) نقابات العمال، التي كانت آنذاك ما تنتهي من إضراب إلا إلى إضراب، حتى كادت ظاهرة الإضرابات، و(المطالبات)، أن تعصف باستقرار البلد، واقتصاد البلد، و(هيبة) السلطة. كان بإمكان تاتشر أن تحقق بعض المطالب، وكان في مقدورها بالمناسبة ذلك، غير أنها كانت تهدف إلى بناء (سابقة) يتذكرها النقابيون، والمعارضون، في المستقبل جيداً، فحواها أن الحكومة أقوى من أن يلوي ذراعها أحد، ولا ترضخ للابتزاز. انتهى عهد تاتشر بعد ثلاث فترات حكم متتالية من عام 1979 إلى عام 1991، أعادت فيها لبلدها، وكذلك لحزبها، وللتاج البريطاني أيضاً، قدراً كبيراً مما فقده من ألق وقوة بسبب ضعف وتخاذل بعض الساسة الذين سبقوها. غير أن تجربتها في عدم الإذعان لليّ الذراع بقيت ماثلة للعيان حتى اليوم؛ فالذي لا يختار توقيته جيداً، ولا يدرك مكامن ضعفه وقوته، ومكامن ضعف وقوة خصمه أيضاً، ويراهن على الجواد الخطأ، في الزمن الخطأ، وفي المضمار الخطأ، سيخسر الرهان حتماً؛ هذه هي لعبة السياسة منذ أن عرف الإنسان السياسة، وضغوطات وتجاذبات أطراف العقد الاجتماعي.
وغبي ذلك الذي يمارس السياسة، ويغوص في قضاياها وشؤونها، ثم يدّعي أنه بعيد عنها، وأن ما يمارسه ليس إلا دفاعاً عن حقوق، أو حماية لدين، أو ذباً عن قيم، ليس لها أي أبعاد سياسية؛ بينما هو كائن سياسي من رأسه حتى أخمص قدميه؛ ولا يهم كثيراً اعترف أو لم يعترف بأن ما يمارسه لعبة سياسية أم لا، طالما أن هناك من الأدلة والبراهين ما يقطع الشك باليقين، لا يستطيع هو ولا من يصفقون وراءه أن يخفوها. ومن يلعب في السياسة، ولا يزن وزن (خصمه) جيداً، ولا يقرأ احتمالات ردة فعله بعناية ودقة وحذر، ويحاول أن يلوي ذراعه، فلينتظر عواقب ما أقدم عليه؛ هكذا هي أبجديات السياسة؛ ولا يهم بعد ذلك اعترفت أنك سياسي أم تمسكت بأنك (ناسك) أو واعظ؛ تذرعك بالنسك والدين، وتدثرك بالنصيحة والوعظ، لن يُغيِّر من الواقع شيئاً.
إلى اللقاء.