هارب أنت أيها الفتى الريفي النجدي الصحراوي الموغل في انتمائه مما ينز باللهيب تحت قدميه وما يصب عليه من شواظ محرق فوق رأسه؛ هارب من نفسك، من ذاتك، منك أنت؛ من لهيب الأرض المتوقدة المشتعلة في هذا الصيف الحارق المجنون، ولاهث راكض خلف غيمات مطر تهطل بعيدا بعيدا في ديار ليست لك وفي أرض لا تعلمها سوى على خرائط الجغرافيا!.
لم أنت هكذا أيها الصحراوي الناضب الجاف الخشن المطارد بالهزائم والتوهم والمخاوف والتوحش وكره الآخر؟! لم أنت شقي بانتمائك؟ تعس بما أنت تحبه؟ نكد بما تنبري ملدوغا للدفاع عنه؟! لم قدرك أن تكون في بقعة تشوي وتكوي وتعذب بحبها وتجرع آلام ملذاتها من يتقطر حبا لها ثم يهرب منها ولا يجد مناصا من تجرعها ثانية وثالثة ورابعة حتى الفناء؟!
كيف تهرب إلى الديار الماطرة الخضراء، والوجوه الصبيحة الحمراء والبيضاء تتطلب إشراقا وتبحث عن ندى وتسعى إلى نسيم فضاء لا هبوب ولا سموم ولا ترصد ولا ترقب ولا غبار بين غيماته الرقيقة الناعمة الشفيفة الأنيسة اللصيقة بالقلوب قبل الوجوه والأجساد؟!
كيف تهرب يا فتى من ذاتك الجافة المتوغلة فيك المتفحشة بين خلايا وقطرات دمك وروحك وأنت ترحل بها معك؟! كيف تريد لذاتك نجاة من جفافك وعطشك وحصار من حولك لك وأنت ترحل بذاتك المعطوبة معك وترحل بمن يَكلمُك ويعطبك ويشقيك معك ساكنا بين جوانحك؟!
أتراك وأنت تقتعد مكانا قصيا في «الفوكيتس كافي» أو «ماريوت كافي» بالشانزليزيه تنجو من ذرات متسارعة متصارعة متخاصمة معك أنت ومع هواجسك وطقوسك وخلاصات وعيك المعطوب، ومع ما قرأت وما ناقشت وما حفظت وما ماتدلقه من كلام في صباحاتك المتثائبة وفي مساءاتك الملولة؟!
تجلس متكئا في مقهاك هذا على الرصيف الباريسي وعيناك شاخصتان في العابرين والعابرات وقهوتك المرة يشربها النسيم العليل، وقطرات من مطر باريسي سخي، تنسيك مرارة قهوة تعودت عليها شفتاك في مدينتك الصحراوية الجافة غير الماطرة الملتحفة دائماً بالغبار والشمس والترقب؟ لا تعلم أهي قهوة بحليب؟ أم حليب بقهوة؟ أم شيء بين بين لا تعلم كنهه ولا تعرف طعمه؟ أم مزيج من تناص ثقافات لم تتصالح ولم تتآلف بعد ولم تحسن إحداهما فهم الأخرى؟!
لا تعلم يا فتى أأنت المشكل أم ثقافتك أم الثقافة الأخرى؟ لا تعلم أأنت لا تجيد التذوق؟ أم لا تجيد الارتشاف الحضاري؟ أم أن ذائقتك مرة لا ترطبها محليات ولا منكهات ولا مشهيات؟
لِمَ تغدو قهوة اللاتيه هنا في هذا المقهى الباريسي طيبة المذاق أصيلة المنشأ عميقة الخدر ذات نكهة فواحة عبقة سخية بالمتعة على حين تكون هناك في الصحراء شيئاً آخر إلا أن يكون قهوة لاتيه؟! كيف بك وأنت هنا تحت نقر حبات المطر المنتشية ووقع أحذية السيقان الملتفة الأنيقة الشيقة التواقة المنطلقة في توثب ودلال وإغراء على رصيف الشانز أيها الراحل بعيدا هاربا من نفسك وهي معك ومن قومك وهم في داخلك ومن أرضك وصحرائك وهي تقتات دمك وتتوغل ساكنة جاثمة على فرائص قلبك؟! هل تنسى ما يتوقد داخلك؟ أم تنسى ما يضطرب به وجدانك؟ أم تنسى أنك آت إلى حيث أنت متوسلا «فيزة» عبور إلى ديار النور بعد طول إذلال وبعد معلقات أوراق وبعد طول انتظار وأمل لتنعتق من نفسك وترتدي نفسا أخرى غير التي في داخلك كي تتوه وتسوح في الأرض مع البشر وتكون كالبشر شهرا أو بعض شهر؟! كم سفحت من الوقت؟ وكم أنفقت من الجهد؟ وكم أهرقت من حبر وأضنيت من كيبورد لترى ختم «الشنجن « على جوازك فتدخل عالم الندى السخي والمطر الهتان والأرصفة النابضة والقهوة ذات النكهة والوجوه الصبيحة الدافقة بماء الحياة؟! وها أنت هنا فمن تكون الآن؟! هل استطعت وأنت بين من طرت مشوقا إليهم غدوت إنسانا آخر مختلفا غير أنت أيها الصحراوي الآثم أبدا المتهم بحرب الحضارات المتوجس منه خيفة الموضوع تحت الترصد والأسئلة الشاكة القلقة؟ هل انعتقت ونسيت وغفلت وسحت كما يسوح البشر؟ هل أخذتك اللفتات والبسمات والوجوه الصباح والقدود الأنيقة المياسة الملاح ونسمات الحرية وصباحات الأيام الدافقة بالأمل والتوثب والندى والابتسام والتحايا المؤدبة؛ هل أخذتك من عالمك الآخر المستوطن المستبد بك؟ كيف بك وأنت تصارع ما لا يصارع؟ وتخاصم ما لا يخاصم؟ إنه شيء لا حدود ولا قيود ولا تعريف له؛ هو ذلك الذي يحجبك عن العالم بين يديك ويقف بك في منطقة متنازع عليها بين الحضارات لا هي لك ولا هي لهم؛ فأنت ممزق تائه حائر معذب بين انتمائك وبين اندفاعك؛ بين حبك وبين نقمتك؛ بين صدق احتراقك بلهيب حبك لصحرائك المجدبة الشحيحة وبين اندلاقك وارتمائك على هذا العالم السخي بالمنح والحياة والإمطار؛ فكيف يا فتى توازن بين إعسار وإقتار وجدب وبين إرواء وإشباع وإنعام وإسخاء وإحياء؟ أيتساوى الموت مع الفناء؟ أم السكون مع الحركة؟ أم الإملاق مع الغنى؟ أم التوقد والتوثب مع القعود والخمول؟ أم التجهم والصدود مع الابتسام والقدود؟ أمالانضباط واللياقة والذوق مع الفوضى والجلافة والصلف؟؟!!.
العجب كل العجب منا ونحن نحب ونعشق ونتودد من هو شحيح علينا بنبض حياة أخرى مختلفة، بخيل علينا، معدم أو يكاد، غائب أو يكاد عن حركة الكواكب؛ ولكن ماذا نقول فيمن تتوسد نبضاته الجافة في أحداقنا؟ أننزعها عن عيوننا فلا نبصر ولا نعيش، أم ندعها كما خلقت ونخاتلها لنسرق لحظات الحبور كما أنت الآن أيها الصحراوي الهارب من نفسه السائح المتنكر المتزوق المتصنع المرتدي ذاتا غير ذاته!.
اكتب اكتب ما بدى لك، وارصد ارصد ما ترى، ودوّن دوّن ما يختلج به وجدانك؛ وأنت على مقعدك الوثير في مقهاك الباريسي بين رذاذ يتلاطف رقراقا على كيبوردك فلا يبلله، دعه يختلس اللحظات فيقبض عليها فلا تفر، ويسترق الكلمات فلا تهرب من بين حروفه المعربة؛ ارتشف قهوتك العذبة المرة قبل أن يخالطها المطر فلا تعلم بعد أهي مطر أم قهوة؟ ولا تتذكر أبدا قهوتك المعتادة هناك حين يخالطها الغبار والصيف القائض وبخاخات الندى المصطنع؛ فلا تعلم أهي قهوة أم ماء رذاذ مصطنع مزور؟! اكتب حيرتك يا فتى، ودوّن هزائمك على أبواب السفارات؟ احفر بكلماتك التائهة كما أنت صورة لفتى نجدي يعيش جذلا موهوما مخدوعا بنفسه وأحلامه واعتزازاته الكاذبة تتكشف له خدائعه الآن، وتتمرغ أمامه وبين يديه أحلامه الموهومة بأمجاد لا حياة لها إلا بين بطون الكتب وقاعات المحاضرات وأسئلة مادة التاريخ؟! اشرح واحكِ وتحدّث إلى نفسك في مقهاك الباريسي ولتتبين ملامح كلماتك العربية بين ضجيج رطانة الفرنسيس ليعلو ولو مرة واحدة في التأريخ حديث بصوت عربي قادم من أدغال التأريخ ومن أعماق الكتب ومن مرويات الانتصارات الآفلة في شارع له تأريخ آخر مختلف، وخطوات لها إيقاعات أخرى لم تعتدها عيناك ولم تألفها أذناك! اكتب عن كل العرب العاربة والمستعربة الذين مروا من هنا، وعبروا من هذا الممشى الطويل الأنيق؛ بدءا برفاعة الطهطاوي وعلي مبارك وطه حسين وزكي مبارك، وليس انتهاء بعبدالرحمن بدوي ولا توفيق الحكيم أو سهيل إدريس!.
ولا تأبه بأحد يسترق منك السمع أو يتلصص منك الكلمات؛ فأنت هنا في مدينة النور، أمامك «الليدو» وخلفك السين، وعلى مرمى من ناظريك السوربون وحيه اللاتيني.
لا تتذكر من عبروا تأريخك ومضوا ونسوا؛ بل تذكر من عبروا تأريخهم وبقوا، كل الذين حفظت المطولات عنهم أيها الفتى المأزوم بنفسه وبواقعه مضوا، وبقوا في الروايات والمحفوظات، وكل الذين عبروا تأريخهم عاشوا ومضوا ولكن بقوا؛ هاهم بين يديك يمشون ويمرحون ويتبخترون ويتجادلون ويتبرلمون وينشرون ويبدعون ويبنون ويمخرون عباب البحار وطيات الفضاء ويصنعون لقومهم أمجادا! لتنس أو لتتناس ولو للحظات ما امتلأت به أنت من أمجاد وبطولات وقصص لم تعد إلا حكاوى وتسليات وتعزيات، ولتبق في الحاضر بين عوالم لم تمت ولم تفن ولم تستحل بعد إلى مرويات وأساطير وحكايات تدرس وتمنح عليها الدرجات في قاعات الامتحان!.
عليك وأنت ترتشف الرذاذ هنا غير المصطنع أن تستحضر الأطياف التي بنت وأنجزت وكونت الليدو والبرلمان والسوربون، وعليك ألا يغيب عنك مجد كلمات ترعرعت في وجدانات هؤلاء القوم فأغنتهم وأترعتهم وملأتهم حبورا وأمجادا وقوة؛ تذكر باسكال وراسين وموليير ولافونتين ومونتسيكيو وفولتير وروسو ولامرتي وشابان وهوجو وسارتر وفرانسواز ساجان وغيرهم من الأدباء والمفكرين الذين شيدوا صرح الحرية وأعلوا من قيمة العقل، وقضوا على هيمنة الخرافة وعصر الكهنوت الكنسي.
اكتب وتأمل، وانظر ولا تختلس، واحتس قهوتك السوداء المبهرة بالندى والنكهة، وانس مرارة هزائمك الخاصة والعامة، وانطلق بعيدا بعيدا عن ذاتك، وارتد ذاتا أخرى فرحة متفائلة مترعة بالحياة غير أنت..
هل تستطيع أيها الفتى النجدي الهارب عن نفسه ومن جفافه وخشونته وصلفه وحروبه ودماء وطنه العربي المراقة برخص ومجانية؛ هل تستطيع أن تكون غير ما أنت، وغير ما وقر في وجدانك، وغير ما خططته رياح الخماسين والسداسين والشياطين على وجهك المغبر أيها الصحراوي المطارد بعذاباته وأوهامه وهو في أحضان الندى والجمال والتحضر والنور؟!.