بداية لم تكن متوقعة ولم يكن محسوب لها من الجميع لا من الشعب ولا من القوى السياسية سلطة ومعارض،ة تلكم هي ثورة التغيير في اليمن التي انطلقت قبل ستة أشهر تردد نفس الشعارات التي دوت من قبل في شوارع تونس أو مصر «الشعب يريد إسقاط النظام»
وهي ثورة عادلة كل مطالبها في ظل أجواء الفقر الذي يتسع من عام إلى آخر، والبطالة التي تتضاعف سنة بعد أخرى والفساد الذي عجزت كل برامج الإصلاح المالي والإداري التي أعلنها النظام خلال أكثر من عقدين ونيف من الزمن أن تحسن ولو قليلا من أدائه وتخفف من غلواء هذا الفساد.
واليوم، وبعد مضي ستة أشهر ربما تكون ثورة التغيير في اليمن مرشحة لدخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية بكثرة شعاراتها وأسماء الجمع التي مرت بها وعدد التنظيمات واللجان الشبابية التي تشكلت في الساحات، لكن، وبعيدا عن كل هذا سؤال يطرح نفسه وهو: لماذا تأخر الحسم وهل تحولت ثورة التغيير إلى أزمة تغيير. لكي نجيب على هذا السؤال لا بد من قراءة الواقع الذي يشهد أزمات ومشكلات مركبة في اليمن ترجع جذورها إلى مئات، بل ربما آلاف السنين؛ فالبلد، وإن كان كما يباهي أبناؤه عرف أول ديمقراطية وشورى ورد ذكرها في القرآن الكريم على العهد السبئي الضارب في أعماق التاريخ إلا انه عاش فترات من الحكم الفردي الاستبدادي المتسلط طمس الشخصية الجمعية وكرس سلطة الفرد بكل تداعياتها، فمنذ عصر ما بعد ظهور الإسلام عرف اليمن حكم الأئمة الذين يدعون الانتساب إلى آل البيت ويحكمون بدعوى الحق الإلهي الذي يكرس سلطتهم، ويوجب طاعتهم كجزء من إيمان الناس وكان هؤلاء الأئمة يعمدون إلى تدمير كل البنى الاجتماعية والمؤسسات التي لا تخدم سلطانهم المطلق ويناوئون كل دول الخلافة الإسلامية وكرسوا الجهل والتخلف والخرافة حتى آخرهم أحمد حميد الدين في أوائل الستينيات يدعي انه ملك الجن والإنس والناس تصدق دعاويه، وكان يطلق على نفسه لقب «احمد يا جناه».
وورث اليمنيون من بعد الأئمة تخلفا متعدد الوجوه دون أن يرثوا تجربة دولة ولو بأي حد من الحدود فقد كانت الدولة هي الإمام البلد بلد الإمام والمواطن رعوي الإمام والعسكري عسكري الإمام ويروي أن ما كان وزير مواصلات أو اتصالات « البريد والمورس» على عهد الإمام قام بمعاقبة ساعي بريد بفصله من العمل، فقال له الساعي: لا تقدر؛ لأني ساعي بريد الإمام وأنت وزير مواصلات الإمام وفعلا عجز الرجل عن معاقبة الساعي لأن الإمام رده إلى عمله وأنبه.
وبعد ثورة سبتمبر ظلت محاولات قيام دولة في اليمن تمر بحالة من المد والجزر وإن كانت قد شهدت بعض التجارب الناضجة مثل قيام هيئات تعاونية أهلية أسهمت إسهاما كبيراً عبر تنظيم الجهد الشعبي في خلق تنمية في الريف اليمني من شق طرقات وبناء مدارس ووحدات صحية، وذلك فترة حكم إبراهيم الحمدي إلا أن علي عبد الله صالح في بداية حكمه حول مسار هذه الهيئات وأفرغها من مسارها التنموي وتحولت فيما بعد إلى المؤتمر الشعبي العام الحاكم الذي يترأسه علي عبد الله صالح. ومطلب التغيير في اليمن مطلب يتفق عليه كل الناس، لكن تلمس البديل هو الصعب؛ فقد عمد علي عبد الله صالح إلى تكريس سلطته كفرد وحاشيته وراءه وطمس كل معالم مؤسسات الدولة، فمثلا كمؤسسة الجيش لا يوجد جيش لليمن بقدر ما كان جيش الرئيس وسنحان وكل القادة العسكريين البارزين تم استبعادهم وتصفيتهم من المؤسسة العسكرية واستبدالهم بقيادات من سنحان منطقة الرئيس ومن أقاربه بالتحديد، ومن ثم، فإن وجود الجيش أصبح شكليا بحيث أن القوة الحقيقية الموجودة في المعسكرات ربما لا تتجاوز نصف العدد الذين تصرف مرتباتهم والبقية تذهب مرتباتهم إلى جيوب القادة وهم خارج هذه المعسكرات، وتم الاهتمام أخيرا ببناء الحرس الجمهوري والأمن المركزي كمؤسستين تدينان بالولاء المطلق للرئيس وقيادتهم المباشرة ممثلة بابن الرئيس، ومن ثم بقيت هذه المؤسسة عدا قلة منهم اداة بيد السلطة لقمع الثورة دون الرهان على المؤسسة العسكرية ككل في أن تقدم البديل كما حصل في الحالة المصرية.
على صعيد الحياة المدنية ومؤسسات المجتمع المدني من أحزاب ومنظمات جماهيرية سبق أن أوردت في مقال الخميس الماضي صورة كاملة للكيفية التي تم بها إفراغ هذه المؤسسات من محتواها وتحويلها إلى هياكل شكلية لا يطمئن إليها السواد الأعظم في أن تكون بديلا للنظام القائم. ويبقى أمامنا الشخصيات العامة التي يراهن عليها كل المجتمعات، لكن وللأسف أقولها إنه تم طمس الكل وفي مجتمع يقترب عدد سكانه من الثلاثين مليونا لا يوجد إلا رقم واحد هو الرئيس، ومن ثم يبدأ التعداد من الألف؛ ففي وقت أفرغت مؤسسات الدولة من أداء مهامها نجد أن رئيس الوزراء وليس الوزراء فقط مجرد موظف كبير عند الرئيس، وكان الاستثناء الوحيد هو فرج بن غانم -يرحمه الله- الذي قدم استقالته من رئاسة الوزراء عندما وجد نفسه غير قادر على عمل شيء أو ممارسة مهامه كرئيس للوزراء، فهناك بعض الوزراء من أقارب الرئيس والمحسوبين عليه لا سلطة لأحد عليهم وتعتبر وزاراتهم اقطاعيات خاصة، وهناك من الوزراء من يتم تعيين مدير مكتب له هو الذي يملي عليه ماذا يعمل وطبعا والأصل يعود إلى اختيار وانتقاء الوزراء؛ إما من عائلة الرئيس والمقربين له وإما شخصيات ضعيفة هزيلة ولديها نقاط ضعف كثيرة. ولكي تتضح الصورة حول منصب رئيس الوزراء والمستوى الذي وصل إليه في اليمن نعيد إلى الأذهان قصة الدكتور حسن محمد مكي عندما كان قائما بعمل رئيس الوزراء واختلف في الرأي مع احد شيوخ القبائل أثناء اجتماع للمؤتمر الشعبي العام الذي يتمتع فيه الاثنان بالعضوية رئيس الوزراء وشيخ القبيلة، وقام الشيخ ونصب له كمينا قرب مقر الاجتماع وتم إطلاق النار عليه وقتل مرافقه وأصيب هو وبدلا من أن يعتبر الاعتداء على رمز سيادي في الدولة وتأديب ذلك الشيخ تم فرض الحل على الطريقة القبلية وهو أن يوصل الشيخ ويذبح ثورا أمام بيت رئيس الوزراء وتنتهي القصة، وتم ذلك، وإذا كان هذا هو وضع رئيس الوزراء فما حال المواطن العادي. وبهذه الطريقة تم تمييع المناصب والقيمة التي يكتسبها الأشخاص منها والبقية من الشخصيات التي كانت قد اكتسبت حضورها في مراحل تسبق مرحلة علي عبد الله صالح تم التخلص منها بالحوادث المؤسفة والجلطات التي لم يكشف سرها حتى الآن، وتم إقصاء كل ذوي العقل والرأي وتقديم الغوغائية عليهم. ومن هنا تولدت الأزمة أمام ثورة التغيير فلا الثورة لديها أدواتها وهياكلها رغم أن في الساحات شخصيات على مقدرة كبيرة من اوعي من أكاديميين ومفكرين وشباب واع، ولكنهم لم ينضووا في أداة تنظيمية واضحة الملامح عدا وجودهم في الساحات واشتراكهم في شعارات الثورة ومطالبها فأصبحت الثورة تعاني من أزمة تجاوز البديل بين أحزاب هزيلة وبقايا مؤسسات نظام علي عبد الله صالح وتباين الرؤى بين الساحات التي تعج بالمعتصمين في 17 محافظة يمنية إلى جانب قلق الخارج سواء كان في المحيط الإقليمي أو على الصعيد الدولي الذي يخشى من أن تصل الأمور في اليمن إلى الانهيار التام لكل ما هو قائم، ومن هنا يسعى كثير من الأطراف لترتيب حل لا يترك أي فراغ في السلطة حتى لو كان ذلك بتغيير الرئيس وبقاء حزبه ومؤسسات حكمه تحت قيادة نائبه مع توسيع مشاركة الأحزاب في حكومة وطنية عريضة، وهو أمر يرفضه شباب التغيير لأنه لا يلبي الحد الأدنى من الطموحات التي قامت لأجلها الثورة.
ويبقى عامل الزمن مهما؛ فالشعب بدأ يضيق بالأزمات المتعددة التي يعيشها والعقاب الجماعي الذي يمارس عليه من قبل بقايا نظام علي عبد الله صالح، والشباب المطالبون بالتغيير يراوحون في أماكنهم وقد تتبدل الأمور إلى غير صالحهم إذا لم يتم الحسم سريعا فإذا لم يقدموا أي رؤية انضج من المجلس الانتقالي الذي شكل ولم يحظ بالقبول المطلوب فان الشعب سيحملهم مسئولية الأزمات وتدمير البلاد وستمنى ثورة التغيير بانتكاسة كبرى ربما تظل مرارتها لأجيال من اليمنيين.