|
حوار وإعداد : محمد بن عيسى الكنعان
ربما يتفق الكثيرون على أن هناك مفاهيم ومصطلحات معاصرة ظهرت في مشهدنا الثقافي، وانعكست على واقعنا الاجتماعي كالتنوير والتغريب والليبرالية وغيرها، وهي لا شك تحمل مضامين فكرية معينة، ولها دلالات خاصة، وذات أبعاد تاريخية تعكس تجربة العالم الغربي الحضارية، كما تدخل في طبيعة علاقتنا مع هذا العالم المتفوق حضارياً بشقيه الإيجابي والسلبي، لذلك ظهرت فكرة المشروع التغريبي من قبل بعض الدعاة والشرعيين في وصف بعض المظاهر المدنية والعلاقات الحضارية التي تدخل في تحولاتنا الاجتماعية نظراً لاحتوائها بعض السلوكيات والقيم الغربية التي قد تصنف لدى البعض في إطار الأنماط السلبية المؤدية إلى تبديل الهوية الإسلامية للمجتمع السعودي. من هنا تقيم (الجزيرة) مائدة الحوار هذه حول موضوع (التغريب) للنقاش العلمي في حقيقته وتاريخه، ومدى صحة الزعم بأن المجتمع السعودي يواجه تغريباً في وقتنا الراهن أم هو وهم صحوي؟ وما الفرق بينه وبين التمدن؟ من خلال استضافة الإعلامي الدكتور محمد الحضيف، والقاضي والكاتب الصحافي الدكتور عيسى الغيث.
التغريب التباس المفهوم
بداية ً هل التغريب مفهوم ملتبس في ثقافتنا الاجتماعية فعلاً؟. الدكتور محمد الحضيف، يجيب: (حينما يرد مصطلح التغريب، فهو يعني بالضرورة، صبغ المجتمع.. أي مجتمع، بالثقافة الغربية وأسلوب الحياة الغربي. يدخل في تلك القوانين، والتشريعات، ومنظومة القيم، التي تسيَر حياة الناس، بما فيها دور الرجل والمرأة في الحياة العامة، وطبيعة العلاقة بين الجنسين، ونمط العيش والعمل، وطرائق التسلية والترفيه، وطريقة اللبس.. بل حتى الموسيقى والفلكلور)، أما الدكتور عيسى الغيث فيأخذ المسألة من محورين.. لغوي واصطلاحي، فيقول: (تغريب على وزرن تفعيل وهو من الغرب، أي تقليد الغرب والتشبه بهم في الجانب المذموم من القيم والممارسات). ثم يضيف: (بجواب بسيط هو جعل المجتمع الوطني العربي المسلم كالغرب في أخلاقه وسلوكه السلبية، بمعنى الجانب السلبي من التغريب، وليس الجانب الإيجابي كالمشتركات الدنيوية والمصالح الإنسانية، كالصناعات ونحوها). غير أنه يستدرك موضحاً بقوله: (والتغريب بهذا القصد، سواء كان ناتجا طبيعيا أو منتجا مُصنَّعا: موجود، ولكن بشكل عفوي - في الغالب - وقليل - في الواقع -، وأما المنتج فهو الذي يسميه البعض: «الغزو الفكري»، ولكن هناك فرقا بين «التأثر» و»التأثير»، وفي نظري أن غالب التغريب مع قلة وجوده لدينا هو من باب «التأثر» عبر الفضائيات والإنترنت وغيرهما، وهناك حالات محدودة تعد من باب «التأثير» التي يصدق عليه كونه «غزو فكري»، لأن الغرب ليس متفرغاً لتصدير فكره بهذا الشكل، وإنما كونه قويا اقتصادياً وبالتالي عسكرياً ثم سياسياً جعل من الآخرين يتأثرون به بشكل تلقائي، ولكن دورنا هو وجوب النظر والتعامل معه بالتهذيب والفلترة، وليس بالاستسلام له كالبعض، ولا بالمبالغة فيه حد الوسوسة كالبعض الآخر، بحيث نعيش نظرية المؤامرة، فتضعف هممنا بفقدان الثقة في أنفسنا وتُختطف عقولنا ونُحرم من تطورنا ومصالحنا بفزاعة ومشجب فوبيا التغريب).
الصحوة ووهم التغريب
هناك من يعتقد أن التغريب وهم فكري اصطنعته الصحوة الإسلامية لضرب التيارات الفكرية الأخرى داخل الإطار الاجتماعي، من أجل توجيه الرأي العام والتحكم بالأفكار السائدة وفق رؤيتها الدينية، فإلى أي مدى يبدو هذا الاعتقاد صحيحاً؟ يرى الدكتور الغيث أن التغريب كأصل ليس وهماً، ولكن المبالغة فيه حد التهويل وربما الإرجاف هو الوهم، مؤكداً أن الصحوة الإسلامية بالغت في الكثير من مواقفها تجاه غيرها، ومن ضمنها موضوع التغريب، موضحاً كيفية هذه المبالغة بقوله: (حيث زرعت الهواجس والوساوس في عقول الشباب، مما أفقدهم القدرة على الثقة بالنفس والتركيز على العمل، والهزيمة النفسية بمثل هذه الانطباعات الهلامية، حيث تحطم الروح المعنوية لجيل الصحوة، ومع إحساننا الظن بإخوتنا وغيرتهم، إلا أن البعض عبر عناده وتضخيمه للأمور يثير الشك في قصده، والصحوة في أدبياتها أنها سماوية أخروية، لا تبحث عن مكاسب دنيوية، وبالتالي يصبح اللوم والعتب عليها أكبر، لأنها أشغلت كوادرها فضلاً عن مجتمعها بحروب عبثية وبث للشقاق بين الإخوة عبر العقود السابقة)، كما يقول مستشهداً: (وفي ظني أننا حرمنا خلال الفترة الماضية من مصالح كبرى للمجتمع بسبب هذه الهواجس، وكأن قدرنا ألا يمر أي تطور تنموي إلا عبر بوابة التحريم بزعم التغريب، ثم بعد فترة من الزمن لا يصبح تغريباً وربما صار قربة شرعية، ولو أخذنا تعليم البنات كنموذج لعرفنا كيف كان محرماً وفساداً ومنكراً، ثم أصبح لاحقاً حلالاً زلالاً)، متسائلاً: (هل لا بد من أن نحرق الكثير من أعمارنا في كل مسألة جديدة حتى تدور حلقتها الزمنية). غير أن الدكتور الحضيف يعتبر أن الزعم بأن التغريب (وهم) اخترعته مجموعة لتحارب أخرى، أو لتفرض سيطرتها على المجتمع، هو إدعاء ساذج جدا، للالتفاف على عملية معقدة وممنهجة جداً. فيوضح بقوله: (مثل هذا الادعاء يمكن ترويجه والضحك به على العوام، لكنه لا يصمد أمام النقد والاستقراء الموضوعي. كما أنه ليس أمرا سرياً، يتناجى به أشخاص في مجالسهم الخاصة. صحيح أن التخطيط لعملية التغريب، أمر يتم داخل غرف مغلقة، لكن تنفيذها يحدث أمام الناس، وفي الناس أنفسهم، في سلوكهم، وأسلوب حياتهم، ومؤسساتهم التعليمية والصحية والخدمية، بل حتى في مسائل دينهم وهويتهم الثقافية. يلمسه المشاهد في مظاهر اجتماعية تكرس كأمر واقع، عبر دفع الفعاليات الثقافية والاجتماعية في اتجاه واحد، ومن خلال فعل مؤسساتييفرض بقرارات تخدم توجهاً محدداً، لا يملك الناس أمامها حيلة، ولا يستطيعون لها دفعاً. بعضها يتعلق في حقهم في التعليم، أو حقهم في المشاركة الثقافية والاجتماعية، أو حتى حقهم في الوظيفة والعيش الكريم).
تحديث المجتمع أم تغريبه ؟
حالة الالتباس الثقافي بشأن التغريب التي تحدث عنها الضيفان سلفاً تقود إلى مسألة الفصل بين (التغريب) و(التمدن أو التحديث)، فهناك رأي فكري يفصل بين (التغريب) الذي يعني إعادة صياغة منظومة القيم والعادات والسلوكيات الاجتماعية وفق الرؤية الغربية، وبين (التمدن أو التحديث) الذي يعني الأخذ بنظم ومنتجات الحضارة الغربية ، فما يقول الضيفان؟. الدكتور محمد الحضيف يشير إلى أن التغريب هنا يختلف عن التحديث والأسلوب العصري والحديث للحياة، ويضيف: (الذي هو التعاطي مع التقنية وأساليب الإدارة الحديثة، والاستفادة من منجزات الحياة العصرية. لأنه لو كان الغرب فقط، هو من ينجز التقنية ويصنع التقدم التقني لجاز لنا أن نصف ذلك بالتغريب، لكن التقدم والتطور التقني منجز بشري أسهمت وتسهم فيه كل أمم الأرض. بل إن أمة مثل اليابان، لها إسهامات في هذا المجال تفوق معظم دول الإتحاد الأوروبي). ثم يوضح أكثر: (الخلاصة أن هناك تغريباً (westernization)، وهناك تحديثاً (modernization)، والفرق بينهما واضح. إذ ليس كل تقدم علمي وتطور تقني يعد تغريباً، كما أنه ليس كل ما يأتي من الغرب، هو عصرنة وتحديثاً. فينتهي الدكتور الحضيف إلى قوله: (من المؤكد أن هناك فرقاً بين التحديث والتغريب. التحديث باختصار، استيراد التقنية وتوطينها، أما التغريب فهو عملية ثقافية، تقوم على نبذ القيم والثقافة الأصلية، وإحلال القيم الغربية مكانها. التحديث شكل من أشكال المثاقفة، أما التغريب فهو انسلاخ واستلاب حضاري، وتكريس للتبعية). في المقابل لا يختلف رأي الدكتور عيسى الغيث عن ذلك غير أنه ينبه إلى مسألة مهمة بالنسبة للتعاطي مع منجز الآخرين، فيقول: (التغريب بشقه السلبي لا يقبله أي مسلم، ولكن بشقه الإيجابي وهو الذي نسميه «التمدن» في الشأن الدنيوي بما لا يخالف ثوابتنا فهو ليس مجرد مباح بل واجب التحصيل، لأنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، مستشهداً بحالات اجتماعية، بقوله: (ولو رضخ الآباء لوساوس من سبقنا لما صار عندنا تعليم بنات وبرقيات وهواتف وعشرات المصالح، وقد جمعت الكثير من المسائل التي كانت محرمة من قبل لدى البعض بمسوغات مثل التغريب ونحوه فبلغت عندي قرابة المائة حالة).
البعد التاريخي للتغريب
لكن بعض الباحثين يرون أن التغريب يشكل المرحلة الأحدث ضمن مراحل غزو فكري غربي للسيطرة على المجتمعات الإسلامية بدأت بالاستشراق، ثم الاستعمار، ثم التنصير، وأخيراً التغريب، فهل هذا صحيح علماً وعقلاً وواقعاً ؟ الغيث يعلق على ذلك بأن الاستشراق كان في غالبه يقوم لهدفين: أحدهما أخذ ما لدينا من إيجابيات ليقتفوا أثرها، وثانيهما ليعرفوا حقيقة قوتنا ويغزوننا من قبلها، موضحاً: (لم يكن الاستشراق مقصوداً لذاته بحيث يصبح مفسدة بذاته، وإنما لما بني عليه من خطط لاحقة، فهم أخذوا خيرنا من اختراعات وفكر ولم يتوجسوا خيفة منا، ونحن اليوم للأسف لا نمارس ممارستهم الذكية، بل نحذر من مجرد الابتعاث، ونحن نرى غالب أطبائنا وعلمائنا في الشؤون الدنيوية اليوم قد تخرجوا من هناك، في حين أن المتشددين لم يقبلوا بأن نبتعث أولادنا بزعم كونه تغريبا، ولا هم قبلوا بأن نفتح جامعة تقنية عالمية لأنها تغريب)، متسائلا ً باستنكار: (الله عليهم كيف الخلاص؟)، كما يضيف: (وأما الاستعمار فلضعفنا العسكري، والتنصير لضعفنا الاقتصادي، والتغريب لضعفنا الفكري، ومع كل هذه الأمور فنرى أن من يشكون التغريب ويبالغون فيه هم الذين يقفون في طريق خلاصنا منه عبر وقوفهم في طريق إعادة عزتنا التي كانت في صدر الإسلام والقرون السابقة، حيث لم يكن لديهم أصحاب نظريات المؤامرة وفوبيا التغريب). الحضيف يرى أن الترتيب المشار إليه عن الغزو الفكري الغربي لا يجعله قد تم في سياق مؤامراتي، لكنه يستدرك توضيحاً بقوله: (المؤكد أن الغرب وهو في السياق التاريخي امتداد للروم، دخلوا في صراع حضاري مع المسلمين، لم يتوقف منذ الفتح الإسلامي لمنطقة الشام الكبرى)، مضيفاً: (التغريب ليس بالضرورة حلقة في سلسلة. لكنه جزء أصيل من أحلام الهيمنة والسيطرة، وتكريس مناطق النفوذ للامبريالية الغربية، عبر ما يسمى بالقوة الناعمة، حينما لم تعد الجيوش والقوة العسكرية صالحة لمثل هذه المهمات. في الذاكرة الجمعية لأوروبا (الروم) والغرب عموماً، هناك توجس وخوف ونفور، يأخذ شكل الكراهية أحياناً من كل ما هو إسلامي. ليس على المستوى الشعبي فقط، بل حتى النخب. أطروحات صامويل هانتنقتون حول « صراع الحضارات».. حينما جعل الإسلام خصما للحضارة الغربية، وليس شريكاً في البناء، أبرز مثال على هذا الشعور الصليبي القلق المتوجس من الإسلام من حيث هو ثقافة وحضارة، تستعصي على التدجين والاحتواء. هذا القلق منلإسلام، لم يتوقف عند الحذر منه ومحاورته، بل تكرس عبر مساع حثيثة لاختراقه وإضعافه وهزيمته).
في ضوء هذا الطرح التاريخي من قبل الضيفين، يقول المستشرق الانجليزي (جب) صاحب كتاب (إلى أين يتجه الإسلام): من أهم مظاهر سياسة التغريب في العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة، كما يشير في الكتاب إلى أن الهدف من بحثه هو معرفة إلى أين وصلت حركة التغريب في الشرق الإسلامي؟ إلا يعد هذا شاهداً تاريخياً على حقيقة التغريب ؟. حول ذلك يعلق الدكتور الغيث بقوله: (ليس من المقبول علمياً وعقلياً أن كل كاتب وكتاب سوف يتحقق بشكل كبير، مهما بلغت كمية انتشاره، ومهما بلغت درجة قابلية الأجهزة السياسية الغربية للقيام بتنفيذه، ونحن لا ننكر التغريب كله، ولكن في نفس الوقت لا نسلم بمزاعم المبالغين كذلك، فهي كالموجات، ولكنها أقل وأضعف من أن تؤثر علينا، ويجب أن نثق بأن تعاليم الإسلام أكبر من أن تهتز بكل خططهم ومشاريعهم، وكل ما أريده هو الاعتدال والوسطية، وعدم التسليم بأي دعوى إلا بدليل ملموس بعيداً عن الهواجس والوساوس التي تفت في عضدنا وتفرق بيننا وتؤخر مسيرتنا، وإنني دائماً أقول: إن مثلنا كمثل الذي يشكو مرضه وفي نفس الوقت يشكو من يأتيه ليعالجه، فهو في حلقة مفرغة لا نهاية لها). خلاف ذلك يعلق الحضيف على كلام المستشرق جب بقوله: (بعث الحضارات القديمة التي سبقت الإسلام، وإثارة الفروقات العرقية والطائفية، ليست شكلاً من أشكال التغريب، إنما هي عملية إضعاف للهوية الإسلامية، وإحلال هوّيات بديلة، وتشجيع الولاء والانتماء لغير الإسلام وقيمه الأصيلة، وإعلاء الولاء لحضارات قديمة، هو شكل من أشكال التفتيت، الذي يراد به تمزيق وحدة المسلمين. كما أن الانتماء لحضارات بادت، سوف يعزز التبعية للغرب. لأن مثل هذا الانتماء يمثل خصماً حضارياً للإسلام الذي هزمها وحل محلها، وبسبب أنه أيضاً مفرغ من أي قيمة أخلاقية أو نظام اجتماعي، فإن البديل المرشح ليملؤه ويمنحه حياة، هو المفهوم الثقافي الغربي، بنظامه القيمي والاجتماعي. الغرب كذلك، سيرعى مثل هذه الدعوات عبر مؤسساته العلمية، ويصنع منظمات حقوقية تدافع عن دعاتها، ويوفر لها دعما مادياً باسم الثقافة.. وهو ما يؤدي بالضرورة إلى التغريب).
حقيقة تغريب المجتمع
على قافية ما سبق طرحه فكرياً وتاريخياً وواقعياً على مستوى الأمة الإسلامية، كيف هو المشهد بالنسبة للمجتمع السعودي ؟ هل يواجه تغريباً فعلياً حسب التحذير المستمر من قبل أفراد وجهات في التيار الديني (المحافظ) ؟ محمد الحضيف يؤكد بداية ً أنه ليس من أنصار نظرية المؤامرة، كما أنه ليس مع القائلين ب-(الخصوصية) المحضة للمجتمع السعودي، التي تجعله مجتمعاً ملائكياً تتربص به الشياطين. غير أنه يوضح: (إلا أن الحقيقة التي لا يماري فيها إلا جاهل أو صاحب غرض، أن هناك معطيات تاريخية وحضارية، تفرض على المملكة، قدراً لا تستطيع أن تقفز فوقه. المملكة هي قلب الجزيرة العربية بلد الحرمين، ومهد الرسالة، وحصن الإسلام. هناك من يريد أن يكون لها خيار غير الإسلام)، ثم يؤكد تعرض المجتمع السعودي للتغريب، فيقول (المجتمع السعودي يتعرض لمحاولات تغريب حثيثة، هذه حقيقة. هناك محاولات منظمة لحرفه عن قدره ومساره، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وما قيل عن مشاركة مزعومة لبعض السعوديين في تلك الأحداث، حيث حُمَلت المملكة دولة، وشعباً، وثقافة وزر تلك الأحداث، وجعلت المشاركة المفترضة لعدد من السعوديين فيها، ذريعة للانقلاب على كامل المنظومة الدينية، والنسق الثقافي، وأسلوب الحياة). بل يذهب الحضيف إلى أبعد من ذلك بقوله: (هناك أجندة خارجية وراء الحملة المنظمة والمستمرة على كل ما يحمل طابعا إسلامياً: المؤسسات الدينية، الجمعيات الخيرية، المناهج الدراسية، المراكز الصيفية، والوضع المحافظ والمحتشم للمرأة، وهناك وكلاء محليون لتسويقها). على النقيض ينفي ذلك عيسى الغيث، فيقول: (من يدعي أن هناك تغريباً فعليه بالدليل على وجوده أولاً ثم الدليل على كونه تغريباً ثانياً، فضلاً عن أن يبالغ في حجمه، ناهيك عن أن يتهم إخوته بتبنيه، وهكذا هي صورة المشهد تتكرر منذ عقود، فكل شيء جديد كان يصلنا وصم بأنه تغريب، وحتى لبس ساعة اليد والأكل بالملعقة والجلوس على طاولة الطعام جعلوها من التغريب والتشبه بالكفار!، واليوم نعيش نفس المشهد ولكن بجيل جديد لم يتعلم الدرس، وبأدوات العولمة التقنية الغربية عبر الفضائيات والإنترنت، ولذا فالبينة على المدعي، ولن تكون موصلة للإثبات، سوى أنها تثبت عارض الفوبيا المتوارث).
لكن تباين الرأي حول حقيقة تغريب المجتمع السعودي يستدعي السؤال: هل التحولات العصرية الجارية في المجتمع السعودي تعكس مظاهر تغريب حقيقية أم هي تحولات طبيعية وفق نظرية التطور الاجتماعي للمجتمعات الحديثة ؟ يجيب الدكتور الحضيف: (الذي يحدث في المجتمع السعودي نوعان من التحولات. تحولات اختيارية، وهي نتيجة طبيعية لأي مجتمع حي، يتفاعل ويتثاقف مع الأمم والثقافات الأخرى. نرى مظاهر هذا التحول في استيعابنا لأساليب الإدارة الحديثة، وفي توطين التقنية واستخدامها في كافة مناحي الحياة، وفي تحقيق منجز تنموي غير مسبوق في مجال تعليم المرأة، دون الوقوع في مأزق الاختلاط القبيح. نراه في أننا دولة ومجتمع عصري، أكثر بكثير من دول ومجتمعات كثيرة، اجتاحتها موجات التغريب، ولم تفلح في عصرنتها وتحديثها. نرى كل ذلك، ونحن ما زلنا مجتمعاً محافظاً، لم تشوه وجهه مظاهر التفسخ والانحلال، التي يصنعها التغريب. النوع الآخر من التحولات، هو توجيه قسري يفرض فرضاً بقرارات، لا تترك مجالاً للاختيار، انطلاقاً من رؤية فوقية تقول: نحن نفهم أكثر منك، ونعرف ما يصلح لك، ونختار لك الأفضل. تحولات تغتنم ما تظنه فرصة تاريخيه، صنعتها ظروف طارئة، لتعيد صياغة وتشكيل المجتمع وفق رؤيتها، بوحي من أجندة خارجية). موضحاً: (إن ما يجعل المجتمع السعودي أكثر رفضاً ومقاومة لمشاريع التغريب، ليس لأن لديه شيئاً مختلفاً يميزه عن غيره من المجتمعات العربية، غير تلك التي فرضتها حقائق الجغرافيا والتاريخ، وشرعية النظام السياسي. إن كون المملكة هي بلد الحرمين الشريفين، ومهبط الوحي، يجعل من الاستحالة قدراً أن تنجح فيه مشاريع التغريب. كما أن شرعية النظام السياسي، الذي استلهم واستوعب في بداية نشوئه وتأسيسه هذه الحقائق، تقف خطاً أحمر، وجداراً صلداً، أمام محاولات يائسة، يعتقد أصحابها أن للتاريخ غفلة، يمكن العبث فيها بصيرورته). أما الدكتور الغيث فيجيب بقوله: (التحولات التي أراها أقل مما يجب، وبالتالي لم تتسارع خطانا حتى نخشى من السقوط في مزلق التغريب، وإنما العكس هو الصحيح، حيث تباطأت خطواتنا حد التخلف، فالدول المتربصة من حولنا، في حين نرى هؤلاء الإخوة وهم يلعنونها صباحاً ومساءً ولكنهم لا يفعلون شيئاً في منافستها، بل في المزيد من الضعف بمبررات واهية، ولذا فأقول لهم: اتقوا الله في أنفسكم وفي أمتكم، فهل تريدونها إلى مزيد من الهوان على الناس؟!، ألا ترون مالزيا كيف صارت، وتركيا كيف بلغت، فضلاً عن إيران وإسرائيل من حولنا ؟).
ما أشار إليه الدكتور الحضيف بخصوصية المجتمع السعودي نظراً لمكانة المملكة في العالم الإسلامي، يطرح تساؤلاً أخر يتعلق بطبيعة المجتمع السعودي، هل هي مغايرة لطبيعة المجتمعات العربية، التي تأثرت بالتغريب وبالتالي عدم تكرار التجربة بالمملكة، كون التغريب نشأ في بعض المجتمعات العربية ومارس أنشطته في ظل الاستعمار، بينما يستظل مجتمعنا بدولة تأسست على التوحيد وتطبق الشريعة في معاملاتها وأحكامها ؟. ليست المسألة أن الأفكار والقيم الغربية تخيف أو لا تخيف - هكذا يقول الحضيف - مضيفاً: (من حق كل أمة ومجتمع أن يعيش حياته وفق الثقافة والقيم التي يؤمن بها، ويرتضيها أفراده لأنفسهم، ومن واجب قادته ورموزه والعقلاء فيه، صيانة معتقداتهم وقيمهم، وحماية أبناء شعوبهم من هجمة وتهديد الثقافات المهيمنة. كل الأمم الحية تفعل ذلك. التبعية الفكرية والاستلاب الثقافي أخطر أشكال الاستعمار وشكل صارخ من أشكال العبودية، يؤدي إلى رهن مقدرات الأمة للمستعمر الخارجي). كما يستشهد بأمثلة على مستوى العالم فيشير بقوله: (الهند التي حققت قفزة علمية وتقنية تثير الإعجاب، بثقافتها الهندوسية الغالبة، التي تقوم في جزء كبير منها على الخرافة، وأشكال من الوثنية البدائية، لا تتردد في مقاومة التغريب، ولا تستحي من ثقافتها تلك. بل لم يفكر أحدا من نخبها أن يتبرأ من ثقافته، أو يعزو إليها شكلا من أشكال التخلف). الغيث ينظر للمسألة من زواية أخرى، فيقول: (التغريب في البلاد العربية بسبب الاستعمار، ومع ذلك انظر إلى تمسكها بثوابتها ونمو صحوتها الدينية، وأما بلادنا فلم تستعمر بفضل الله، وبالتالي المقارنة غير علمية، كما أن مجتمعنا محافظ، ودولتنا إسلامية، وكل هذه العوامل يجب أن تشجعنا على المضي قدماً في التطوير وليس العكس، لأن مبررات الخوف غير موجودة، وبالتالي فإن التنمية اللازمة هي الفريضة الغائبة اليوم وبها تتحقق باقي الفرائض).