هكذا قال العوام في أمثلتهم: «بلدك الذي تُرزق فيه لا الذي تُولد فيه» وهو قول فيه لأهل العلم وأصحاب التجارب والفكر والشعر مذهب، ولعل الغالب منهم أولئك الذين يؤيدون حب الانتماء لمساقط الرؤوس، وقليل منهم من لا يرى ذلك، ولعل الذي يصنفهم في هذا التعليل الغني والفقير، وللأغنياء في مساقط رؤوسهم تغنٍ بحبها واعتزاز بها، أما من لم يصبهم غنى فيها ويجدون فيما سواها سعة في الرزق، فلا يرون لها عليهم أي حق، ولا يشفهم لها حنين أو وّله ولا حتى لمقيم من أقاربهم.
قال الهمذاني واسمه علي بن محمد بن خلف الهمذاني(1) المتوفى سنة 414هـ في كتابه «المنثور البهائي»: لو قيل لبعض غير المتشوقين لبلدانهم ردّ الله غربتك لكره ذلك واستثقله، ولعدَّك داعياً عليه لا له على أنه قد يشذ عن هذا الحكم قوم من الخاصة لا لنقصان الحاسة، ولكن للضرورة الماسَّة(2).
ولو تتبعنا تأثير حب الوطن ومسقط الرأس لوجدناه في كثير من التراجم ملحقاً بالاسم فكم من عالم انتقل من بلده ومسقط رأسه إلى بلد طابت فيها إقامته، يضيف إلى آخر نسبه بلده فكم من عالم استقر في غير بلده الأصلي لكنه ينسب إليه فالمصري أو الهمداني والدمشقي أو المكي أو سواهم كل ينتسب لبلده ومسقط رأسه.
وخلاصة القول إن في المثل العامي آنف الذكر نسبة ربما كبيرة من الواقع الملموس.
وممن يؤكد ذلك من الشعراء علي بن محمد بن خلف الآنف الذكر في قوله من قصيدة بائية له:
يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم
وترمي النوى بالمقترين المراميا(3)
______________
(1) المنثور البهائي دراسة وتحقيق الدكتور عبد الرحمن بن عثمان الهليل
(2) وقد اختلف في اسم البهائي ممن قائل إنه علي بن محمد بن خلف الهمذاني النيرماني.
(3) المنثور البهائي ص 102