كانت سوريا وستضل جزءاً مهما من العالم العربي تاريخاً، وحضارة، وشعباً. وقلاع حلب، وحماة، والساحل السوري تشهد على الذود عن الأمة وشرفها ودينها. فسوريا كانت الخط الأخير للدفاع عن القدس ضد الحملات الصليبية، وقد يستغرب البعض ليعرف أن المسيحيين السوريين،
ومنهم المسيحيين اللبنانيين العرب، أي ما يسمى بالكنيسة الشرقية، وقفوا مع أخوانهم المسلمين العرب ضد الغزو الصليبي الغربي. ففي لحظة ما كنا أمة واحدة لغة وحضارة قبل أن نغرق في وحول التفرقة الدينية، و المذهبية، والطائفية. وقد دخلت سوريا في جميع مشاريع الوحدة العربية، والسوريون شعب شهم، ومكافح، وما يحدث لهم اليوم أمر مأسوي بكل المقاييس. وسوريا اليوم أشبه بورقة الاختبار لما قد تؤول إليه الأحوال في الدول العسكرية العربية.
سوريا الأبية ابتليت، كما ابتلي العراق، و ابتليت ليبيا وغيرها بحكومات شمولية، مركزية، عسكرية تسترت بستار الإيديولوجية القومية العربية المستندة على مفهوم بعث المجد العربي القديم من جديد. وساهم في تعزيز قبضة الجيش السوري على السلطة وجود عدو مجاور للأمة بكاملها وهو الكيان الإسرائيلي الذي أقامته الدول الاستعمارية في قلب الأمة العربية وفي أجمل، وأغنى منطقة فيها، مثلما أسهم وجود إيران كتهديد خارجي في زيادة قبضة عسكر العراق على السلطة في بغداد. فالعدو الخارجي كان دائماً حجة واهية للسحق الداخلي.
ولم يكن تسلم العسكر «القومنجيون العرب» للسلط في العالم العربي محض مصادفة، أو حدث عشوائي بل كان بمباركة الدول الأوربية التي رأت في استلام هذه السلط الانتهازية للسلطة أمر أخف من ضرر تسلم غيرهم لها من إسلاميين أو شيوعيين مؤدلجين إبان الحرب الباردة. وقد أثبتت السلط العسكرية في البلدان العربية أنها تتحلى بأكثر درجات الانضباط الإقليمي، فعلياً لا دعائياً، بعدم الإضرار بمصالح الدول الكبرى في المنطقة. بل إنها، في كثير من الأوقات تصرفت وفق الظروف بكثير من الانتهازية في سبيل المصالح الوقتية، كما تصرفت العراق عندما شنت حرباً ضد إيران ما بعد الشاه، وكما تصرفت سوريا في حرب الخليج الثانية ضد الجارة العراق. والمضحك المبكي أن جميع الانقلابات العسكرية العربية، التي سمت نفسها مجازاً ثورات، انقلبت على حكومات سابقة بحجة مكافحة الفساد، وتحرير الأمة من النفوذ الخارجي!!
غير أن هذه الحكومات العسكرية التي تبنت بداية الأمر قضايا كبرى في المنطقة تحولت إلى حكومات تسيرها المصالح الداخلية الذاتية لطبقة العسكر، والطبقات المدنية المنتفعة التي تسوغ لها عن طريق الدفاع النظري والسياسي عن أطروحاتها، فتحولت لكيانات أكثر فساداً وولاءً للقوى الخارجية من أي أنظمة أخرى سابقة. فحزب البعث العراقي تحول إلى سلطة تكريتية لصدام وأقاربه وعشيرته، والوضع لم يختلف كثيراً في الجارة سوريا حيث تحول الحزب لطبقة قمعية منتفعة، وتحول النظام اليمني لدولة طفيلية، وليبيا إلى كيان مزاجي غريب الأطوار لا هدف له ولا هوية. وأصبحت قضايا التحرير، أو الصمود، أو الممانعة مجرد مسوغات لتشديد قبضة الطغم الحاكمة على البلدان والشعوب المسالمة. وكان لنظام ألمانيا الشرقية البائد الفضل الأول في تدريب العناصر الأمنية في كثير من هذه البلدان لتتحول إلى أنظمة متميزة في التخويف، والسيطرة الأمنية التامة. والنجاح المبهر لمثل هذه الحكومات كان على الصعيد الأمني فقط حيث نجح بعضها في جعل الأخ يتجسس على أخيه والابن على أبيه.
والنتيجة المؤسفة لكل ذلك هو تحطيم أجيال عربية متعاقبة كانت في وقت ما أمل لنهوض الأمة العربية. وتمزيق النسيج الأخلاقي والمعنوي للمجتمعات العربية إن عمداً أو جهلاً، حصل ذلك في مصر، والعراق، وسوريا، وليبيا، واليمن، وتونس. وقد أثبتت التجارب العربية عدم موثوقية الشخصية العربية في تعاملها مع السلطة، وعلى وجه الخصوص السلطة المطلقة، فهي شخصية ضعيفة أما إغراء البطش والطمع، و لم تنضج تاريخياً، ولا معنوياً، ولا أخلاقياً لتستأمن على السلطة، أو لتحاول النهوض بشعوبها. فبعد أربعين عاماً من الأدلجة الوهمية بكافة أشكالها عدنا للمربع الأول، بينما أصبحت إسرائيل، تلك الدولة الصغير، في المدة ذاتها دولة مؤثرة عظمى.
اليوم في مصر نشاهد تلكؤ المجلس العسكري في التحرك بشكل واضح لتحديد الاتجاه الذي ستسير فيه البلاد، و هناك إحساس يتعمق كل يوم بأن هناك محاولة التفاف على التضحيات التي دفعها الشعب مقابل وعود معسولة بانتخابات حرة ونزيهة، بالمعيار العربي طبعاً، وعلى وزن السلام العادل الشامل، وبأسلوب يا ليل ما أطولك. وما زال الجيش في اليمن يمسك بتلابيب السلطة مصطفاً مع رئيس يطالب الجميع برحيله بعد أن حكم 37عاماً من الحكم المرشّد. و ما زال العسكر في ليبيا يمارسون أنواع الدمار الذاتي لمقدرات بلادهم، ورهن مستقبلها لقوى خارجية، بشكل يدمي القلب. وفي تونس تتجه البلاد بشكل يتضح يوماً بعد آخر نحو فرض الأحكام العرفية المؤبدة.
الوضع العربي، أو وضع ما أسماه بعض المتفائلين بالربيع العربي، يتجلى في أوضح صوره في سوريا، حيث تحول ما يفترض أنه جيش تحرير للأراضي السورية المحتلة، لما يشبه بجيش احتلال للأراضي السورية المتبقية خارج نطاق الاحتلال. وقد أبدى الجيش بسالة منقطعة النظير، وكفاءة لا تقارع في التصدي لمواطنين، وقمع المظاهرات لشعب كانت مهمته الأولى حمايته. دبابات، طائرات مروحية، ومدفعية ثقيلة خرجت لتتصدى لمواطنين عزّل، أطفال، ونساء، وشيوخ.
بالمختصر المفيد تحول الربيع العربي المورق بأزهار الأمل بالانعتاق من قيود الفساد والذل إلى صيف عربي قائض بالوعود المعسولة، والتلكؤ السلطوي. فالقضية ليست قضية انتفاضات فحسب، بل هي ذهنية بائسة متجذرة في العقل العربي، ترى العالم في لحظتها الحسية المباشرة، وفي إرضاء غرائز متواضعة غير منضبطة من التسلط، والعدوانية، والجشع غير المحدود. فالمسألة ليست مسألة تعبير أو احتجاج بل مسألة حضارية بكل امتياز. العقلية العربية لا زالت حبيسة الانتهازية العشائرية، والأطماع الشخصية، وهي لم ترق إلا في حالات استثنائية جداً للمثل الإنسانية العليا. حتى الأديان، والطوائف، والمذاهب لم تسلم من التشويه والانتهازية، فالقضية العربية الراهنة تمثل لدى معظم القوى المتصارعة في الميادين المختلفة كلمات حق تكمن خلفها نوايا وأهداف شخصية باطلة. والمحيط العربي، في رؤية متشائمة مستحقة، كالمحيط المليء بالسمك بعضه يأكل بعضه البعض الآخر، وعدوى إنفلونزا الفساد والطغيان تنتشر فيع أسرع من زكام الشتاء، أما المصالح القومية الكلية للأمة فستظل مطمورة تحت ركام أكوام من المصالح الشخصية.
latifmohammed@hotmail.com