المتتبع للغة العربية يجدها على مر الزمان لغة متطورة تؤثر وتتأثر باللغات التي حولها لأنها لغة حية، بها من المرونة ما يجعلها تعيش في أي عصر وفي أي زمان، ولو بقيت بمنأى عن لغات العالم وجديد الناس لما وجدتها اليوم بكامل إشراقتها.
اقرأ إنتاج العصور الإسلامية، تتبعها على مر الزمان، ستجد أن لغة المنتج الأموي يختلف عن لغة المنتج العباسي، عن لغة المنتج الأندلسي، عن عصرنا الحالي ولكنها في النهاية لغة عربية لغة حية تنمو كما ينمو الناس والحضارات.
وما يقال إن اللغة العربية نزلت بلغة قريش، قول لا يسنده التاريخ ولا تسنده اللغة ذاتها ولا الأحاديث النبوية الكريمة، القرآن الكريم نزل بلغة جامعة لا تنتمي لقبيلة بعينها، وإنما تنتمي إلى كل البشر في ذلك الزمان الذين يقطنون الجزيرة العربية، كأرقى ما يكون الكلام، ولم تقتصر على مفردات يمنية أو شمالية أو حجازية أو نجدية وإنما ضمت كلمات تنتمي إلى أصول فارسية ورومية مثل: سندس واستبرق وفردوس وكأس وكافور وسرابيل... إلخ، ما يجعلنا أمام لغة عظيمة وبحر هادر من الكنوز واللآلئ، تعرب ما يستجد في هذا العالم وتضمه إلى عالمها وتكبر مع الناس والعالم والمستجدات.
التفجر المعرفي أوجد كثيرا من المفردات والمصطلحات واللغات ما يجعل لغتنا العربية أمام تحدٍّ كبير إما أن تطور ذاتها وفقا لهذا الحدث الكبير أو تبقى عند حد (قل ولا تقل).
لا زلنا مسكونين بـ (فوبيا: الخوف الوهمي) من كل جديد، نتوقع إذا قلنا (إيميل) أن اللغة العربية ستتقوض عن بكرة أبيها، وأن هذه المفردة ستجعل من القناة الثقافية قناة إفرنجية، وأن ألستنا ستصبح فيما بعد ألسنة إفرنجية، لا ندري كيف يفكر بعض القوم.
(إيميل) لا تعني: بريد، لأنك ترجمت جزءا من الكلمة، وإذا قلت: بريد إلكتروني فإنك ترجمت الأولى وعربت بشكل جزئي (Electronic)، وإذا قلت (تقني) فهي الأخرى معربة بشكل كامل، وليس ما يمنع أن تكون هذه الكلمة كما هي في لغتنا أو تعرب بشكل جزئي أو كامل، لأنها مفردات شائعة، لدرجة أنها باتت جزءا من حياتنا اليومية. واللغة الإنجليزية لم تندثر لأنها أخذت من العربية مفردة (جمل: camel)، ولم تقم الدنيا ولم تقعد ولم يهزأوا بمحطاتهم لأنهم استخدموا (كَمِل).
هل ثمة أحد في منزله يقول تلفزيون أو يقول (رائي)، كلنا نقول (تلفزيون) وهي كلمة معربة من (television) فنحن نستخدمها اليوم، مثلما استخدمت لغة القرآن الكريم كلمة (سندس واستبرق) ذات الأصل غير العربي. وما يقال عن أن أصولها القديمة عربية رحلت مع لغات العالم ثم عادت إليها يظل كلاما ظنيا لا تسنده بحوث علمية محكمة.
عندما تسمي القناة الثقافية أحد برامجها الرمضانية (سلة الإيميل) بهذا الاسم فإنها تعني بالضبط هذا المعنى وهي على وعي كامل بأبعاد المصطلح، ولا يمكن أن تسميه (سلة البريد) لأنه سيحيد بالمعنى إلى معانٍ أخرى لا تخدم فكرة (البرنامج) ولا مضمونه، وهي تتعامل مع هذه المفردة باعتبارها كلمة معربة وليست كلمة غربية منقولة كما هي مثلما تستخدم كلمة (برنامج وقناة) المعربتين منذ سنوات، ولا يتوقع أحد أن (القناة) الثقافية عاجزة عن استخدام البديل، وإنما هي تتحدث بروح العصر وتناقش أبعاد هذه (الإيميلات) وتأثيرها على الفكر والسلوك والحياة وتقرأ إنتاج الجماهير (التقني) من خلال هذه (المجموعات البريدية التقنية) باستخدام أدوات النقد الثقافي، إذن هي في مهمة أكبر وأعظم وأبعد إدراكا من الوقوف عند: قل: «شاطر ومشطور وبينهما طازج»، ولا تقل: «ساندوتش».
nlp1975@gmail.com