إذا كان فريق غير قليل من الشعب المصري قد هلل وكبر لسوق الرئيس السابق لمصر « حسني مبارك « على سريره إلى المحكمة وسط قفص الاتهام متناسيا تاريخه الطويل وإنجازاته، وغافلا عن بطولاته في حرب رمضان 1973م، وهو لم يعرف
بأنه سفاح ولا قاتل ولا متسلط، وإنما هو الحكم لا بد له من ضبط وربط وحزم، وقد تخطئ الجهات الأمنية الموكل إليها أمر الضبط والربط، وقد تجتهد اجتهادا مخلا فتبالغ في التقصي أو العقوبة، ولكن الأمر واللوم في النهاية يعود على صاحب الأمر ومن وجه به وهو الرئيس، إذا كان مبارك يدخل قفص المحاكمة ولم يرتكب عشر معشار ما يفعله بشار في شعبه؛ فماذا يمكن أن نتنبأ به لمصير من يستخدم الطائرات والدبابات والمدافع وكل أسلحة البطش والإرهاب والتخويف والسحل والتعذيب في حق شعبه الأعزل؟!.
كيف يمكن أن نتخيل مصير من يملأ سجونه بالأبرياء والأحرار والشرفاء تحت الأرض وفي الأقبية منذ أكثر من أربعين عاما !! ثمة طبقة من الناس تعيش في العالم الآخر المخفي تحت الأرض عقوداً طويلة، أُخِذَت شابة وكَبِرَت وهرمت وهي لا تعلم أن فوق الأرض بعد أناس أحياء يعيشون.
توالت المظالم، وتتالت، وتكاثر المهجرون، ومن يحاول الفرار يقصف بالدبابات! حتى النجاة لا طريق لها، حتى الفرار من البلد، وتركه لعسكره وجهنمه والغنم بالنفس فحسب غير ممكن ولا متيسر إلا تحت القصف والنار والبارود!.
كيف لنا أن نتخيل قفص مبارك وهو لم يرتكب عشر معشار ما يقترفه العسكر في ليبيا أو سوريا، لنا أن نتخيل بعد أن ينجلي غبار المعارك غير المتكافئة في البلدين قائمة الاتهام التي ستسطّر ثم تتلى وهما في القفص ووسائل الإعلام تراقب، والمترافعون عن القتلى والمضطهدين والمنتهكة حرماتهم وأموالهم يتلون بياناتهم، ولكن.. ربما لن يتطوع محام واحد يدافع عن أي منهما! وهل يخيل لأي منا أن محاميا شريفا سيجد له متكأ أو يجد له أعذارا يقف بها أمام قضاة عدول ومحكمة شريفة ليسوغ بها هذه الدماء الزكية البريئة التي تسيل أنهارا، أو يبرر بها حرب المدن وتخريبها على من فيها؟!.
إذا كان الشعب المصري التواق إلى الحرية والعدالة يرى أن نظام حسني مبارك قد تجرأ على العدالة وانتهك حرمات القانون حين أمر الجيش بقمع الثورة، أو حينما أمر قوات الأمن المركزي بتفريق المتظاهرين بالقوة بما في ذلك ما حدث في موقعة الجمل، والحصيلة من كل ذلك العنف ثمانمائة قتيل أوعدد آخر من الجرحى؛ فإنني أتساءل في هذه اللحظات التي لازالت فيها قوات النظامين العسكريين الباطشين عن يمين مصر وعن شمالها تقصف دون هوادة بكل أنواع الأسلحة، وتهدم البيوت على ساكنيها، ويتساوى في هذا العقاب البريء الغافل الذي لا شأن له بما يحدث والمطالب بالتحرر من نظامي التسلط والبطش؛ فماذا سيفعل الشعبان الليبي والسوري حين يتحرران من طواغيتهما وتشرق شمس الحرية عليهما من جديد؟!
إذا كان المصريون قد ناضلوا طويلا وطويلا من خلال مؤسسات المجتمع المدني ليتخلصوا مما كانوا يرونه قيدا ثقيلا عليهم، ومما كانوا يشعرون به من ظلم وتسلط، وما حدث من تجاوزات في الاعتقالات والسجون والحرمان من المنافسة الديموقراطية العادلة في الانتخابات ؛ فكيف سيكتب الشعبان الليبي والسوري قضاياهما، وكيف ستتلى المرافعات عن آلاف المظالم والانتهاكات والاعتقالات التعسفية والتعذيب في السجون والقتل والحرمان من الحقوق الشخصية للمعارضين أو لمن لم يطبل للنظامين المستبدين؟!.
إن هذه المرحلة الانقلابية الغريبة المتسارعة التي يعيشها عالمنا العربي تجعلنا في أعتاب تصور جديد يتشكل الآن للمنطقة، كان قد بدأت مخاضاته خلال عقد ماض من الزمن بفعل ما حدث من تغير في المفاهيم عن الحرية والحقوق، وبفعل غفلة الأنظمة العسكرية الدكتاتورية عن مطالب شعوبها، وسعي تلك الحكومات العسكرية المستبدة على الخطة القديمة التي تعودتها الأنظمة الفاشية؛ وهي كتم وتحييد وتهميش وعزل كل صوت آخر لا يمجد طغيان العسكر واستبداهم، والصد عن مطالب شعوبهم في تطوير الأداء الحكومي وتذليل سبل العيش وتسريع خطى التنمية؛ مما سبب احتقانا شعبيا متراكما يزيد ويستفحل مع الزمن، ثم هيأت الثورة الاتصالية العالمية الحديثة سبل التواصل والتنسيق وتبادل المعلومات بين من هم في الشرق ومن هم في الغرب، ومن هم في القرى ومن هم في المدن ؛ مما شكل ما يشبه الندوات المفتوحة لجبهات الرفض في تلك البلدان التي تعيش تحت وطأة حكم القبضة العسكرية الباطشة، وهذا ما يسر وسهل اندلاع الثورات الحديثة واستمرارها أشهرا تحت انهمار النار ووابل الرصاص وعلى أنهر من الدماء والأشلاء رغبة في التغيير وتطلعا إلى الحياة الكريمة النبيلة والشريفة، كما يريدها الإنسان الحر الشريف في كل أنحاء المعمورة، وكما يضمنها أي دستور إنساني عادل.
إنها الحق وثورة الفيس بوك!
لقد طال أمد هذه الأمة وهي تئن تحت وطأة أنظمة العسكر الشمولية التي لا تألو في شعوبها إلاًّ ولا ذمة.
وطال الصبر وملَّته هذه الشعوب حتى تفجّرت وألقت بشبابها وشيوخها، وحتى بأطفالها وقودا للتغيير.
وهنا نتساءل، وقد بالغ بطش العسكر واستمرأوا الظلم والعدوان على أبناء شعوبهم وعلى أهليهم: لو لم يكن لهؤلاء الأبرياء الذين يتساقطون مجموعات وفرادى مطالب مشروعة ملحة لما تسارعوا وتقافزوا إلى الموت تحت أزيز الرصاص وبين أيدي الجلادين الظلمة؟! وهل الحياة رخيصة وسهلة ليمنحها شاب في عنفوان الشباب لأحد بلاطجة العسكر (على لغة إخواننا في اليمن)؟!
لقد دخل مبارك القفص الذي كان يوعد به، وربما لم يصدق أبدا أن هذه ستكون نهايته، وهو - على مقياس النسبة والتناسب - لا يساوي شيئا في ميزان الإجرام والفتك والقتل وتجاوز القانون عند من سيدخل هذا القفص لاحقا من طابور العسكر بعد أن تؤتي الانتفاضات الشعبية أكلها، كما آتت في تونس ومصر، وهي على طريق الاستواء والنضج في ليبيا واليمن وسوريا، وهي رسالة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ليتعظ بما يحدث، وليثق بأن الله تعالى ينصف المظلومين ويقتص من الظالمين ولو بعد حين، وأنه يمهل ولا يهمل، وأن الظالم يزين له سوء عمله، وتعميه السلطة المطلقة عن رؤية الحق، ويزين له الشياطين والأبالسة والمرتزقة والمنتفعون والأفاقون والمنافقون من حوله سوء عمله، ويضعون على عينيه عصابة لئلا يرى مفاسدهم، ولا يكشف انتهاكاتهم واجتراءاتهم على حقوق الناس ومطالبهم، حتى إذا بلغ السيل الزبى، وفاض الكيل بالناس، وطفح الميزان ؛ تعالت الصيحات، وتوحدت الصرخة، وتلاءمت وتتابعت النداءات وسالت المدن محتجة ضاجة صارخة كما يحدث الآن في سوريا وليبيا واليمن، على الرغم من وابل الرصاص وطوابير الشهداء!.
الحق أن وطننا العربي لا يريد أن يتغير عن طبع قديم ألفه حكامه العسكر، وهو أن من سبق وامتطى دبابته حكم الناس، ثم برك على رقابهم عقودا طويلة مؤلمة مملة من الزمن، وسخر الناس لعبادته والتسبيح باسمه صباح مساء، فصدام كان هو الإعلام، وكان هو المشرع، وكان هو القائد الذي له مائة اسم، وكان الحكيم الذي لا ينطق عن الهوى. وصاحب الكتاب الأخضر هو الفيلسوف المشرع المفكر مجترح النظرية الثالثة الذي تتلى حكمه وأقاويله الملهمة قبل كل نشرة أخبار في الإذاعة والتلفزيون وكأنها آيات من كتاب الله الحكيم ،تنزه كتاب الله تعالى عن لغوه وتخريفه، والحزب القائد في سوريا هو الذي يحكم، ولا صوت آخر يعلو على حكم رئيسه، ولا جريدة أو مقالا أو رأيا آخر يمكن أن ينتقد أو يعرض بالحزب أو بمبادئه أو بصاحبه!
لقد عزل العسكر، أو حاولوا، شعوبهم عما يحدث في العالم عقودا، وأغلقوا منافذ التفكير، وكمموا الأفواه، وصادروا الحريات، واستغلوا ثروات بلدانهم ومداخيلها لبناء أهرامات إعلامية هلامية لأشخاصهم، فأعمت الماكينة الإعلامية وأعشت كثيرين عما يعيشه الناس خارج هذا المحيط العسكري الجهنمي، إلى أن حدثت الثورة الاتصالية ففتحت أعين الناس على الحقيقة المرة، ورأوا أن بلدانهم تعيش تخلفا مزمنا في التنمية، فلا طرق ولاسكك حديد ولا مدنا سكنية ولا جامعات ولا مستشفيات ولا وسائل خدمية مشرفة وحديثة، وابتدأ الوعي الجديد مع تحول العالم إلى قرية كونية واحدة، وبدأ السعي إلى التغيير؛ التغيير إلى الأفضل.
غاب عن حسني مبارك بحكم كبر سنه أن وعي الشعب المصري قد اختلف، وأن الجيل الجديد الذي يتراوح عمره بين العشرين والثلاثين مختلف كل الاختلاف عن ذلك الجيل الذي تجاوز الخمسين أو الستين، وغاب عن بال صاحب الكتاب الأخضر أن مقدرة النفس البشرية على احتمال الجنون لن تكون أبدية بكل حال، وأن مصاحب المجنون سيصاب بالداء نفسه إن لم يتخلص أو يبتعد عن الممسوس، وغاب عن بال صاحب البعث ومن تحالف مع الصفويين أن هذا التحالف الشيطاني لن يسعفه ولن ينقذه من السقوط، وأن سعاره في القتل سيعود عليه يوما بالويل والثبور، فلن تذهب دماء الأبرياء هدرا، وهذه هي سنة الله العادلة في هذا الكون مذ أن خلق الله البشر والحجر، فما بالنا بقاتل لا يجد خجلا ولا يجد حرجا في كشف سوءة قتلاه؟!
تدور الأنظمة العسكرية الباطشة في فلك عبودية الذات، فلا تسمع إلا تمجيدا، ولا ترى إلا ركوعا وسجودا!
تدور أنظمة العسكر في فلك الاستعلاء والصمم والترفع والبعد عن الشارع وهمومه !
تدور تلك الأنظمة في حالة مرة ومعذبة ومغيّبة من هوس الكرسي، ومن مخاوف طقطقة قوائم هذا الكرسي المهترئة؛ فما أن تشتم طرف رأي في مقولة أو مقالة حتى تنقض منتقمة باطشة، وكأن البطش أو الانتقام سيطيل عمرا لم يرد الله له أن يطول؛ لأنه لا يأتمر بأمر الله، ولا يطبق حكمه وشريعته في الأرض!.
العالم الحر الديموقراطي يعمل وينتج ويتحاور ويتقدم ويبني ويواصل النهوض، ويعمق معاني الحرية تحت سلطات حكومات ملكية لها تاريخ طويل وتجربة عميقة في القيادة السياسية، أو تحت سلطة حكومات جمهورية وصلت للسلطة بتراضي الناس عن طريق الانتخاب، ينتج العالم الحر ويبدع في تلك المناخات الصحية العبقة بالكرامة والدأب على التفوق بينما يعيش عالمنا العربي في كثير من بقاعه مغيبا تحت سلطة العسكر وتجبرهم عن حركة التاريخ ودورة الزمان، وتشكل الوعي الجديد وثورة الاتصالات وكأن العرب الآن هم العرب مطلع الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي حين ركب أول عسكري دبابته ثائرا في سوريا، أو في مصر أو ليبيا أو اليمن أو في العراق أو الجزائر!
وإن لم يدرك هؤلاء الذين لازالوا في غيهم يعمهون، متعامين عن دورة الزمن، وانقلاب المفاهيم، وتشكل الوعي الجديد ؛ فإن القفص في محكمة العدالة فاغر فاه لاستقبالهم في القريب العاجل!.
ksa-7007@hotmail.com