ما يحدث في مصر من مطالب شعبية لمحاكمة الرئيس السابق حسني مبارك لا يمكن الحكم عليه من خلال أخلاقيات الفوضى والشغب والغوغاء، ولكن من خلال رغبه شعبية من أجل إكمال مراحل الثورة المصرية، وإتمام انهيار القيم الأخلاقية التي قامت عليها السلطة المصرية خلال الثلاثة عقود الماضية، فالنظام الهرمي للأخلاق الذي كان يحكم من خلاله النظام السابق سقط، وحان وقت استبداله بنظام أخلاقي وقانوني آخر يخلو من الطبقية والفئوية أو عدم المساواة، ومن أجل ذلك يُطالب الشعب المصري بتطبيق العدالة في حق المتهمين من رجالات النظام السابق.
* الأخلاق مرآة للوعي الإنساني، ويمر تطورها عبر مراحل من القيم والمبادئ، أدناها أخلاق العبودية التي تقبل الذل والمهانة والتسفل في مجتمع السادة والعبيد والطاعة العمياء، وأعلاها أخلاق العدل والحرية والمساواة التي ترتقي إلى أن تصبح مرجعية قانونيه تستند إليها التشريعات والقوانين، ترتفع من خلالها وتسود فوق سلطة البشر، لتصبح بمثابة المحكمة العليا في المجتمع التي يخضع لها جميع أفراد المجتمع بدون استثناء.
* الأخلاق في تعريفها الفلسفي مجموعة من العادات، ولا تعني فقط العادات الحميدة، فقد تكون أخلاقاً فاسدة، وقد تكون عادات رفيعة، لكنها في مجمل القول مرتبطة بالنظام الاجتماعي القائم، ففي أنظمة الاستبداد والفساد تزداد على سبيل المثال نبرة النفاق ويكثر الكذب والاحتيال وتنتشر الرشوة، بينما في المجتمعات التي تحكم من خلال القانون الذي يفرض مبادئ العدالة والمساواة يضطر الناس اضطراراً للتمسك بأخلاق السيادة والمسئولية وتستقيم أحوال المجتمع، ولا تجد دعوات هدم البناء الأخلاقي السائد مساندة من الجماهير، بينما في المجتمعات الفاسدة أخلاقياً تجد تلك المحاولات صدى لها بين الناس وتحدث الثورة الشعبية.
* في الإسلام مكانة عليا للأخلاق، وقد اتفق علماء الدين على مصطلح الأخلاق الإسلامية، لكن بناءها الأخلاقي ما زال غير واضح المعالم، ففي الأثر الإسلامي كثيراً ما نردد مقولة عمر بن الخطاب الخالدة (متى استعبدوا الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)، بينما لا نزال نسمع في الوقت الراهن من يدعو إلى إعادة عصر الرق وتملك الجواري والعبيد، وما زال الموقف من العبودية في الإسلام غير واضح، وهل كان منعه نهائياً أم مؤقتاً، وقد يعود بعد قيام دولة الخلافة، كذلك نسمع ونقرأ عن ممارسات دينية فيها انتهاك لحريات البشر بينما نقرأ عن رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته).
* كذلك يردد الإسلاميون مفهوم العدالة كخلق إسلامي، وفي جانب آخر يتسابقون في تعدد الزوجات بلا مبرر والزواج شبه المؤقت من النساء المسلمات، أيضاً ما زال مفهوم الطاعة التقليدية والعمياء ركناً من أركان أخلاقياتهم، ولم تجد المساواة موطئ قدم لها في أخلاقيات المسلمين المعاصرين، إذ يفرقون بين المتدين وغيره، وذلك عندما يقدمون للمجتمع الإنسان المتدين في ظاهره على أنه إنسان أسمى وأحق في تراتبية الهرم الأخلاقي والشرعي، وأيضاً يظهر ذلك في سمو دم المسلم عن الذمي أو أن المسلم لا يُقتل في ذمي وهكذا.
* ما يحدث في مصر هو سابقة في تاريخ العرب والمسلمين إذ لأول مرة تتم محاكمة نظام سابق بدلاً من تصفيته كما هو الحال في التاريخ الإسلامي والذي عادة ما يبدأ وينتهي بسفك للدماء وقتل الناس، ثم إعلان أحادي لتولي السلطة والسيوف على الرقاب، وفي ذلك استمرار للهرم الأخلاقي السابق، فقد قتل العباسيون الأمويين في كل مكان واستباحوا دماءهم، ثم تولوا الحكم، وكانت العاقبة استمراراً لنفس النهج الأخلاقي الذي يقوم على العبودية وعدم المساواة .....،
* ما يحدث في مصر هو إعلان لانتهاء مرحلة الهرم الأخلاقي الذي كان يستثني علية القوم من العدالة، وبدء بناء أخلاق جديدة قوامها العدالة والحرية والمساواة، لكن يبدو أن مشروع البناء الجديد سيواجه تحدياً من نوع آخر، فالتيارات الإسلامية السياسية قد تعطل ذلك ما لم تقدم رؤية جديدة للأخلاق، خالية من شوائب العبودية التي ما زال بعض كتب الفقهاء يفيض بها ويروج لها بعض الدعاة في العصر الحديث.