في اليوم الثالث من هذا الشهر.. شهر رمضان الذي شهدت فيه أمتنا انتصارات مجيدة عبر تاريخها.. رأى العالم عبر قنوات تليفزيونية عديدة كيف غيَّر الله الأمور في مصر من حال إلى حال.
رموز كانت تحكم وطنها بقبضة حديدية أصبحت داخل قفص حديدي تخضع لمحاكمة يرجو المنصفون أن تكون تجسيداً للعدالة بكل أبعادها. ما رآه الجميع درس بدأ إلقاؤه بهبَّة الشعب المصري العظيم ضد حُكْم ظل المتحكمون فيه عقوداً يغطون في سبات عميق ممارسين خلالها ما حتَّم الانتفاضة ضدهم.
وكنت قد كتبت مقالة نُشرت في هذه الصحيفة بتاريخ 4-3-1432هـ بعنوان (ما أعمق سبات بعض الرؤساء)!! ومما قلته فيها: لقد أمضى الرئيس المصري ثلاثين عاماً في رئاسته لمصر العظيمة بتاريخها وحضارتها وخيرات أرضها الحالية لو أديرت إدارة مخلصة صحيحة.. وها هو ذا يسلِّم بصحة مطالب الذين قاموا بالهبَّة الشعبية، وكأنه بذلك يصحو من سبات عميق حال دون إدراكه لضرورة تعيين نائب له، وإذا به يُعيِّن هذا النائب، ويقيل وزارته، ويعلن عدم نيته ترشيح نفسه للرئاسة من جديد، بل عدم نيته في ترشيح أحد من أسرته للرئاسة. على أن المثل الشعبي يقول: «إلى فات الفوت ما ينفع الصوت». وقد ختمتُ المقالة بقولي: السعيد من راقب الله في أقواله وأعماله، وانتبه إلى الاعتناء بالمسؤولية التي تعهد برعايتها حق الرعاية، و»السعيد من اتعظ بغيره»، كما يقول المثل العربي المشهور.
ما حدث على أرض الكنانة - ومن قبل ذلك على أرض أبي القاسم الشابي - درس لمن ألقى السمع وهو شهيد من الزعماء وغيرهم. وكان من الحكام العرب من فهم الدرس فهماً صحيحاً - على المستوى السياسي بالذات - فبادر مجتهداً إلى إعلان إصلاحات سياسية يُرجَى أن تكون خطوة خير، كما حدث في الأردن والمغرب، لكن من الحكام العرب من فهم الدرس فهماً مختلفاً؛ فتمادى في بذل الجهود للحيلولة دون نجاح أي هبَّة شعبية، واختلفت مواقف هؤلاء بين ممارس لقمع الشعب بكل أدوات البطش معتقداً - وبئس ما اعتقد - أن البطش وحده هو ما يجنِّبه مصيراً مثل مصير رموز الحكم في مصر وتونس، وبين ممالئ لهذا الباطش بشعبه، أو ساكت عن هذا البطش، والله أعلم بما في قلبه.
وكنت قد كتبت مقالة في الشهر الماضي بعنوان (حنانيك بعض الشر أهون من بعض»، وقلت في مستهلها: كان مما جلته جلاء واضحاً هبَّة الشعب التونسي، ثم هبَّة الشعب المصري، ضد المتسلطين المتحكمين في تونس ومصر مدى الفساد المستشري، الذي من وجوهه البشعة نهب المال العام وإهداره لصالح أعداء أمتنا. وكثير من الناس يعلمون علماً يكاد يكون يقيناً أن النادر من حكام أمتنا، وبخاصة في العقود الخمسة الأخيرة، من لم ينغمسوا في مستنقع الفساد. ومما قلته في تلك المقالة: إن ما ارتكبه - وما زال يرتكبه - المتحكمون في ليبيا واليمن وسوريا من تسلط واستكبار على شعوبهم عقوداً من الزمن لا بد أن ينتهي. لكن ثمن نهاية هذا التحكم مرتفع غاية الارتفاع.
والمتابع لوسائل الإعلام المختلفة يرى أن ما هو جار في الأقطار العربية المذكورة يدل على أن الثمن المدفوع لإنهاء تحكم المتحكمين يزداد ارتفاعاً يوماً بعد آخر. والمؤلم أن الجيوش، التي دفعت شعوب تلك الأقطار الغالي والنفيس لتكوينها أملاً بأن تكون سلاحاً ماضياً لتحرير أوطان الأمة من أعدائها والدفاع عن حدودها، أصبحت سلاحاً موجَّهاً إلى صدور المتطلعين من شعوبها إلى الحياة الكريمة.
وكان مما قلته في تلك المقالة عن الوضع السوري بالذات، ولم أرَ في سير الأحداث ما يدل على خلافه: إن هذا الوضع مستحكم العُقَد داخلياً وخارجياً. فعلى المستوى الداخلي هناك تفرُّد في الحُكْم على أساس حزبي، ينظر إليه بعض أفراد الشعب على أنه لم يعد حزبياً فحسب، بل أصبح أيضاً طائفياً مؤيَّداً كل التأييد من دولة ذات علاقة غير ودية مع العرب في الوقت الحاضر. وعلى المستوى الخارجي هناك اهتمام لا مناص عنه لدى تلك الدولة، وهي إيران التي أصبح لها النفوذ الواضح الجلي في تسيير دفة الأمور في العراق المجاور لسوريا، ولدى أمريكا التي يهمها بالدرجة الأولى ما يهم الكيان الصهيوني المجاور لسوريا والمحتل جزءاً من أراضيها. وكل من قادة أمريكا والكيان الصهيوني يهمهم أن يبقى الوضع في المنطقة على ما هو عليه، وبخاصة أن تهويد فلسطين، بما فيها القدس، يسير على قدم وساق.
وما تناقلته وسائل الإعلام من دعم إيران للحكومة السورية في الأيام الأخيرة بأكثر من أربعة مليارات دولار يدل على التأييد المشار إليه. بل إن من وسائل الإعلام ما ذكرت أن إيران دفعت الحكومة العراقية إلى أن تمد الحكومة السورية بمبلغ يفوق ما دفعته إيران نفسها. ولا أظن حكومة العراق الحالية تعصي لإيران أمراً. ووسائل الإعلام تتناقل أيضاً حرص أمريكا على أن يكون تحركها الجاد مرهوناً بما تراه في مصلحة الصهاينة.
أما ما قلته في المقالة المشار إليها عن الوضع في ليبيا فهو أن من وجوه تعقيداته أن بقاء المتسلط على حكمه أكثر من أربعين عاماً خلق - بدون شك - منتفعين من هذا الحكم لا يطيب لهم حتماً أن يفقدوا مصالحهم الذاتية، إضافة إلى انخداع كثير من أفراد جيل وُلدوا وشبُّوا في ظل ذلك الحكم، وبُذلت جهود إعلامية جبارة لغسل أدمغتهم حتى أصبحوا آلات يحركها المحرِّك كيف يشاء. ومما زاد الأمور تعقيداً، وأعطى ذلك المتسلط وزبانيته ورقة يلعب بها أمام المغرَّر بهم، قبول معونات أجنبية، وهذا مما حتمته ضرورة حماية لكثير من الشعب الليبي من بطش آلة المتحكم العسكرية وتفادي مجازره التي هدَّد بارتكابها، والتي كان - وما زال - مصمِّماً على ارتكابها.
وأود أن أقول هنا: إن الساكتين من الحكام العرب عما يجري من بطش الباطشين بشعوبهم، التي هبَّت ضد المتحكمين بها عقوداً من الزمن ممارسين لأعمال سيئة شنيعة مختلفة، يرتكبون خطأ فاحشاً، وإن كان لا يرقى إلى مستوى خطأ ممالأة أولئك الباطشين، الذي هو جريمة أخلاقية، والصمت ليس دائماً حكمة بل هو أحياناً شيطان أخرس.
أما في الختام فأقول: إن قلب المؤمن ليتمزق ألماً وهو يرى ما حل بالناس في القرن الإفريقي، وبخاصة في الصومال، من جوع وموت يمثِّلان الكارثة الإنسانية بكل جوانبها، ويرى عدم أخذ العالم - وفي مقدمتهم المسلمون - الوضع المأخذ الواجب تجاه تلك الكارثة محاولة لتفادي وقوعها أساساً، أو التخفيف من وطأة وقوعها على الأقل، ثم عدم الجدية في التغلب عليها. ذلك أن ما بذله المسلمون بالذات، قادة وشعوباً، من جهود أقل بكثير مما يجب بذله. ولو أن معشار ما تبذله حكومات إسلامية باذخة الثراء على أمور يعرف الكثيرون خطلها، وما تنفقه شخصيات كثيرة جداً من أموال طائلة على وجوه الترف والإسراف المختلفة، تم توجيهه لعلاج تلك المشكلة لكان في هذا الخير الوفير المسهم حقاً في إيجاد الحلول للتغلب على الكارثة الجلل.
هَيَّأ الله لأمتنا قادة وشعوباً سُبُل التوفيق في السعي إلى ما ينفع الجميع ويحقق لها النصر على أعدائها من داخلها وخارجها.