الذعر الذي أصاب الأسواق العالمية من يوم الاثنين حيث تساقطت كأوراق الخريف دونما حتى محاولة التقاط أنفاس لم يكن فقط مبررا بل حتى منطقيا بكل المقاييس فهو تجاوب مع خفض تصنيف أميركا ائتمانيا وهو الرد الطبيعي من الأسواق بالوقت نفسه على التحركات الغير مقنعة لها من الساسة في أميركا وأوربا خصوصا اجتماعات السبع الكبار على مستوى وزراء المال وكذلك خطاب الرئيس الأمريكي وتصريحات القادة الأوربيين سواء الرؤساء أو مسئولي الاتحاد الأوروبي.
فتريليون من الدولارات تبخرت من قيمة أسواق المال العالمية في أول أيام تداولها هذا الأسبوع ولم يأبه المستثمرون بأي قرار أو إجراء تم التوافق عليه بين وزراء المال للدول الأكثر ثراء أو حتى الأخبار الإيجابية التي وعد أوباما بها الأمريكان والعالم لعودة الثقة التي اهتزت بالدين الأمريكي الذي فقد تصنيفه الممتاز لأول مرة بالتاريخ بحسب قرار صادر عن أكبر وكالة تصنيف ائتماني بالعالم ستاندرز أند بورز الأمريكية رغم انه حمل المسئولية بتفاقم أزمة الديون لإدارة بوش الابن وكذلك القلق من الديون السيادية لدول أوروبا.
إن فقدان أميركا لتصنيفها الائتماني حالة لم تعتد الأسواق المالية على معايشتها ولم تمر بأي اختبار على طول الأزمات منذ بدايات القرن الماضي إلى آخرها قبل ثلاثة أعوام حيث لم تفقد أو حتى يهتز تصنيف أميركا منذ قرن كامل وحتى وكالة ستاندرز أند بورز التي قامت بتخفيض التصنيف لم تغير درجة أميركا الائتمانية إطلاقا منذ إنشائها عام 1941 م وهذا ما وضع العالم أمام اختبار جديد لم يعرفوه من قبل فكان من الطبيعي التدافع لتسييل الأصول من الأسواق المالية والإبقاء على المال في الصناديق والمحافظ الاستثمارية إلى أن تتضح الرؤية لتداعيات الحدث وتأثيره على الاقتصاد الأميركي ومعرفة هل هناك من خطوات جادة وحقيقية وسريعة تسمح بمنع التعثر الاقتصادي ومنع عودة الركود له مجددا الأمر الذي لو حدث سيكون له عواقب وخيمة على العالم وإن كانت توقعات بيوت المال تبقي على احتمالية حدوثه بنسبة ثلاثين بالمائة.
وبمنطق الأسواق فإن المستثمرين سيتحوطون أكثر بالذهب هذه الأيام أو الأسابيع القادمة وهذا ما ظهر جليا بتحقيقه لأسعار غير مسبوقة تجاوزت 1740 دولار لحظة كتابة هذا المقال ومما يزيد من العبء على الاقتصاد العالمي هو أزمة ديون أوروبا التي وصلت إلى دول الثقل بمنطقة اليورو إيطاليا وإسبانيا وترغب الأسواق بمعرفة مدى سرعة وتجاوب الأوربيين لتطويق الأزمة قبل نشوبها بشكل كبير ولا يبدو أن هناك وضوحا كاملا في مدى قدرة الأوربيين على اتخاذ قرار سريع وإن كانت المطالبات عالميا تبدو ملحة بشكل كبير على ضرورة اتخاذ قرارات وحلول سريعة دون أي تأخير أو مماطلة كما حدث بأزمة اليونان التي حلت على عدة مراحل وسط مد وجزر أخذ وقتا طويلا حتى ساند صندوق النقد دول الاتحاد الأوربي في إدارة ملف الحل الأخير لأزمة ديونها السيادية.
ولم تكن الأسواق بحاجة لتقرير إضافي صدر من ستاندر أند بورز أيضا يتحدث عن إمكانية تعرض دول شرق آسيا لازمة مالية خطيرة مبنية على احتمالات دخول أوروبا وأميركا في ركود اقتصادي قد يؤثر بشكل عميق على دول التصدير مما يعني المزيد من القتامة والنظرة السوداوية على الرؤية الاقتصادية العالمية القادمة.
إن العواصف التي تجتاح أسواق المال العالمية ليست إلا انعكاس حقيقي للأخطاء التي صاحبت المرحلة الأولى من الأزمة المالية العالمية في العام 2008 حيث إن تدخل الدول بالأسواق لحل الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالقطاع المالي خوفا من انتقالها إلى الاقتصاد الحقيقي بشكل واسع تحملت الدول وعلى رأسها أميركا وأوروبا تريليونات من الدولارات كانت في غالبيتها ديون وجب استحقاق دفعها الآن مما يعني انتقال الأزمة إلى مرحلة متقدمة وهي أزمة مال حكومية وهنا تصبح الحلول أكثر تعقيدا وأطول أثرا إذا لم يكن هناك تدارك وابتعاد عن لغة المكاسب لأطراف السياسة بتلك الدول على حساب حماية الاقتصاد العالمي الهش والذي يترنح تحت وقع الأزمات المتلاحقة فإذا أرادت أميركا تحديدا حل أزمتها ديونها وخفض تصنيفها الائتماني عليها أن تعرف الأسباب التي أفقدتها الدرجة الممتازة وتعالجها بدلا من تحميل المسؤوليات للغير واتهام وكالات التصنيف بأنها متسرعة أو مخطئة.