مما لاشك فيه أن التصورات الثقافية والوعي الحضاري يلعبان دورًا مهمًّا وحيويًّا في مسيرة تنمية وتقدم المؤسسات بمختلف أنواعها وأحجامها حكومية كانت أم خاصة. كما يلعبان نفس الدور في تحديد المسار الذي سوف تتبعه المؤسسة لكي تنهض وتحقق أهدافها واستراتيجياتها المرجوة، فالتصور والوعي الثقافي يُكونان القاعدة الأساسية التي تحدد نمط التفاعل بين الفرد والمؤسسة التي ينتمي إليها،
وذلك على صعيد التحديات والتطلعات والطموحات والمشاريع التنموية التي تهدف المؤسسة لإنجازها وتحقيقها، سواء كان ذلك على المدى القصير أو على المدى الطويل.
ولكل ثقافة مؤسسية منظومة متكاملة من القيم الداعمة لها، ومن الطبيعي والبديهي أن ترتكز هذه المنظومة على عدد من الأسس والمبادئ التي تعلي من روح الانتماء والإخلاص والاجتهاد والمثابرة في العمل، وهذا بالطبع بخلاف تحقيق أهداف وغايات المؤسسة الأم. ومن المسلم به في مختلف نظريات القيادة الحديثة أن نشر الثقافة المؤسسية بين أفراد المؤسسة هي مسئولية تقع على عاتق رئيسها بالدرجة الأولى. وهو الأمر الذي أثبته جوستاف لوبون في كتابه «سيكولوجية الجماهير» عندما قدم أطروحة «روح الجماهير» والتي تقضي بأن للجماعة روحاً واحدة تتأثر بقائدها بطريقة لا واعية تقريبا، وتحاكي سلوكياته دون تفكير، ثم تنشر بشكل تلقائي ودون عمد هذه الثقافة بين بقية أفراد المجتمع.
بالطبع أن هذه المسئولية تعكس توجهات وإيمان وغايات رئيس المؤسسة. فإن كان رئيساً صادقا مخلصا في عمله، فمن الطبيعي أن تتركز أهدافه باستغلال موقعه للوصول بالمؤسسة لدرجة أعلى من التنمية والتقدم. أما إن كان برجماتيا يسعى لتحقيق أقصى استفادة من موقعه - مادية أو معنوية - فمن الطبيعي أن تتمحور وتتركز أهدافه على تحقيق ذلك. وفي كل الحالات توجد دوما بكل مؤسسة تشكيلة من الموظفين الذين يمثلون خليطاً من النوعين السابقين. وعادة ما يتربص البرجماتيون طبيعة رئيسهم، فإن كان على شاكلتهم فنجدهم يتقربون بكافة الوسائل التي ترضي وتشبع هاجس هذا الرئيس. فهم يتلونون على كل لون يريده رئيسهم ويعزفون على أوتار رغباته المادية والمعنوية ويطربونه بلحن القول وتبرير كل ما يقوله أو يفعله.
في ظل سيادة سياسة الانضباط والإخلاص في العمل يقل كثيرا هامش التربح والاستفادة الشخصية من ظروف العمل، وفي هذه الحالة تتحول الفئة الأخيرة «لمعول هدم» كل همه تدمير وتشويه كل ما يتم إنجازه وتحويله لأنقاض، ولذا تتوالى من ألسنتهم الحادة سيول الانتقادات الهدامة الواحدة تلو الأخرى، بمناسبة أو بدون مناسبة، وبشكل مبرر أو حتى غير مبرر، لمحو أو تشويه كل لبنة تم بذل الكثير من الوقت والجهد في بنائها وإنشائها.
أما إذا كان رئيس المؤسسة برجماتيا بطبعه، سواء كان هدفه استغلال منصبه ونفوذه لزيادة وتكثير أرباحه المادية، أو كان هدفه تسلق السلم الوظيفي والارتقاء لمنصب أعلى بأعلى سرعة ممكنة إيمانا منه بأن المنصب هو ما ينقصه، فإنه يلجأ لتبني سياسة إعلامية أكثر منها عملية سواء من خلال الادعاء باختلاق إنجازات أو من خلال الادعاء بتبني سياسات أفضل من غيره. وهنا فإن الأمر يتجاوز حينئذ خطورة فئة المتسلقين المتلونة لخطورة أشد وأكثر ضررا، تتمثل في تفشي ثقافة المذهب الذرائعي النفعي داخل أجواء العمل، حيث يسعى المنتفعون بالمؤسسة كل من موقع مسئوليته بما يحقق له منفعته الذاتية أولاً وأخيراً، ضاربا بعرض الحائط كل القيم باعتبار أنها لا تعنيه لا في قليل ولا في كثير.
وتعد ثقافة التبرير واختلاق الأعذار وتلوين الحقائق وإيجاد المسوغات من أخطر المخرجات الناتجة عن شيوع الثقافة البرجماتية، فكل من بالمؤسسة يتفنن في الطرق التي يصوغ بها مطالبه أو أفعاله بما يحقق له في النهاية ما يريده، وهو لا يألو جهدا في دعم هذه المطالب بالخطط التفصيلية حتى وإن كانت صورية، ولا يدخر وسعا في تملق رؤسائه بما أوتي من عذب اللسان ولحن القول ليمرر هذه المطالب، وبخاصة في حال كونها غير مقنعة أو منطقية بما يكفي لإقرارها.
وعندما تسود مثل هذه الثقافة داخل جنبات مؤسسة ما، بحيث تكاد أن تشكل بنية تحتية فكرية لها، فمن المرجح أن هذه المؤسسة سوف تترنح داخل دوامة من النتائج المضطربة المتعارضة، وستقع فريسة للأداء الوظيفي الضعيف والفقير، وستنهكها قضايا العمل الصورية السطحية التي ستقصيها عن جوهر العمل الفعلي المطلوب، لأن ثقافة العمل التي ستسود وقتها لن تختص بمخاطبة قضايا وشئون العمل الحقيقية، بل ستتمحور نحو «هندسة التبرير».
و»هندسة التبرير» هي فن لا يستطيع أي فرد في موقع المسئولية أدائه !! لأن المسئولين غالبا ما تقع على عاتقهم أنماط من المسئوليات تختلف عن تلك التي يضطلع بها الأفراد العاديون، لذلك يحتاج الأمر منهم لمواهب وإمكانات خاصة، فهو يحتاج على أقل تقدير لعقلية خاوية فارغة ونفسية متملقة سطحية بطبعها، تعمل وفقا لمبدأ «الأواني الفارغة هي التي تصدر ضجيجا أعلى».
والمسؤولون البرجماتيون يبذلون جهدًا حقيقيًّا مضنيًا، ولكنه ليس موجها في واقع الأمر لإنجاز مهام العمل المطلوبة بقدر ما هو موجه للاستفادة من ظروف العمل بشكل نفعي صرف، لدرجة أن الأمر قد لا يخلو من قلب وتلوين الحقائق على نحو صارخ، فما كان مرفوضًا بشكل قاطع ومنتقدًا بطريقة لاذعة من المسؤولين السابقين، يصبح لديهم مقبولاً ومستساغا ومبررًا بل ومحبذًا في كثير من الأحيان بعد أن تم صبغه بألوان جذابة. وقبل أن يتبادر إلى الذهن سؤال يدور عن كيفية حدوث ذلك، تقفز على الفور الإجابة البدهية: إنها براعة عباقرة مهندسي التبريرات وقدراتهم الفائقة في تسويغ الأعذار مما يعود عليهم وحدهم بالنفع الشديد.
ويمثل هذا النوع من المسؤولين الذي يقضي جلّ وقته خلال فترة العمل في هندسة المطالب وتبريرها وتبديل الحقائق وتغييرها بما يحقق مصلحته الذاتية البحتة خطورة مجتمعية حقيقية تتجاوز حدود المؤسسة إلى تخوم العالم الخارجي، كما يمثل تهديدا وضربة قوية لدعائم مشروع النهضة القائم على نبذ صناعة الزيف ورفض فن هندسة المسوغات والمبررات، فهم الآفة التي ستظل تنخر وتتوغل في جسد المجتمع الحر حتى تدمر دعائمه وتهدم قواعده من أساسها، فهم قاطرة التخلف وأعداء التنمية، وهم من سيضع المجتمع أمام الخيار الصعب، ما بين «تخلف التنمية» و»تنمية التخلف».