تحدثنا في المقالة السابقة عن خطابات السلطة السورية والليبية التي توجه إلى الداخل وتمتلئ بالمغالطات والادعاءات والتهديدات، وأخرى توجه إلى الخارج، وفيها بعض المنطق وشيء من الواقعية؛ يعرض فيها النظام الذي يزعم أنه في حرب مع الغزاة الصليبيين، بيع البلد أو جزء منه إلى ذلك العدو مقابل أن يسمح له بالبقاء على صدور ذلك الشعب المغلوب على أمره، وربما في ذلك حكمة لا يدركها إلا أصحاب الأحلام الراجحة.
أما رجاحة الأحلام الحقيقية، فهي في بلاد الحكمة ومعقل العرب التاريخي؛ إذ صدمت أصحاب العقول الغضة منطق حافة الهاوية التي سار بها، وما زال يسير بها النظام اليمني في إدارة دفة الأمور. فالرئيس يتبجح بأنه ديمقراطي وأتى عبر صناديق الاقتراح، ثم عندما تخرج الملايين في الشوارع ضده، حتى لو كان هناك أعداد أخرى تؤيده – كما يدعي النظام – لا يلقي لها بالاً، ولا يجد في قاموسه سوى اتهامات كل هذه الجموع بالخيانة والإجرام. يعرض أن يتخلى عن الحكم الذي لا يريد التمسك به كما يزعم، ويشترط شروطاً غير منطقية للتخلي؛ كأن يشترط أيضاً تنحي القائد العسكري المنشق والمنافس له في القوة، وعندما يوافق ذلك القائد على المقترح، يتراجع، وكأنه في صالة ألعاب تكتيكية.
ثم تعرض عليه دول مجلس التعاون مبادرة فيها ممالأة كبيرة له، وخلاص من المحاكمة على الجرائم التي ارتكبتها قواته إزاء الشعب الأعزل. فيوافق عليها اعتقاداً منه بأن المعارضة والجماهير المحتشدة في الشوارع والممتلئة قرفاً من التواءاته لن تقبلها. وعندما تقبلها المعارضة وتوقع عليها، يتراجع بحجة قلة دبلوماسية أمين مجلس التعاون في التعامل معه بوصفه رئيس دولة في الجولة الأولى، وبحجة عدم حضور المعارضة للتوقيع أمامه في قصره في الجولة الثانية. وحتى بعد تعرضه لمحاولة اغتيال، وبعد اجتيازه المرحلة الحرجة، يخرج ليردد المنطق نفسه، بأن يكون اتفاق تسليم السلطة ضمن آليات الدستور، الذي يعتقد أصحاب العقول الغضة أنه قد انضم إلى دستور حمورابي في موروث البلد السعيد.
مسكين هذا الشعب المكافح الذي يستحق أفضل مما يناله الآن. فهو قد صبر كثيراً، وعانى في أموره السياسية والمعيشية بسبب تجار السياسة والصفقات على الزعامات السياسية والاجتماعية. وعندما حانت له أيقونة «رحيل» رموز الفساد، تمسك بها بصدق، وعانى في سبيل هذا التمسك أكثر من أي مجتمع عربي آخر. فقد كان هذا الإصرار لعدة أشهر على كلمة «ارحل» سبباً لأن تفوز هذه الكلمة بلقب كلمة عام 2011 في مهرجان فرنسي لعشاق اللغة، بعد أن احتلت معظم اللافتات التي رفعها المتظاهرون في الثورات العربية. ويجمع المهرجان جمهوراً من أصدقاء القواميس وأساتذة اللغة والكتاب والصحافيين وعلماء الاجتماع والمتخصصين في تقصي الإشارات الدالة. ومن بين قائمة طويلة من المفردات المستحدثة والمشتقة أو تلك التي لفتت الأنظار أكثر من غيرها، اختار المحكمون فعل الأمر «ارحل» بترجمته الفرنسية «ديقاج» ليتصدر القائمة بوصفه الكلمة البليغة الموجزة التي هزت كراسي الحكم في أكثر من دولة عربية، خلال الأشهر الماضية. ويركز منظموه على الوزن الكبير للكلمات والمصطلحات المتكررة في صياغة الوجدان الجمعي لشعب من الشعوب.
فهل يتفضل أصحاب الأحلام الراجحة بتزويد عقولنا الغضة بشيء من الرجحان الذي نفتقده، أم يريدون الإبقاء على ذلك التميز لصالحهم، حتى لا تشاركهم العامة في قدرتهم الفذة على التفكير وتحليل الأمور بشكل منطقي، لينحوا في النهاية نحو منطق شمشون المتطرف في سلوكهم العملي، الذي لن يجرفهم - للأسف - لوحدهم؟