صدرت عن دار نقوش عربية في تونس رواية الكاتب العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي «هناك في فج الريح».
وعبد الرحمن الربيعي كاتب غزير الإنتاج، وكل رواياته تنطلق من تجاربه الشخصية، ومن مدينته التي ولد فيها وعاش فيها، مدينة الناصرية في العراق ثم انتقاله إلى بغداد وعمله في السلك الدبلوماسي إبان فترة النظام السابق قبل احتلال العراق.
بعض رواياته تحولت إلى أفلام، وتم تحويرها سينمائياً وسياسياً مثلما تم حذف مشاهد منها؛ كي توجَّه أيديولوجياً لصالح الحزب الحاكم في العراق للفترة من 1968 لغاية التاسع من إبريل 2003م.
وذلك كان يثير استياءه، ولكنه لم يكن قادراً على الاحتجاج، وليس بإمكانه القول سوى «هذا الفيلم ليس روايتي»، وكان صعباً أن يروح إلى أبعد من هذا.
تأتي روايته اليوم «هناك في فج الريح» بعد كل هذه السنوات وبعد ابتعاده عن السلك الدبلوماسي وإقامته الصعبة في العاصمة التونسية؛ ليكتب تاريخاً جديداً لشخصه، تاريخاً ربما حصل فيه بعض التنازل الذي كثيراً ما ترغمه الفاشية عليه؛ فأراد أن يؤكد رفضه للفاشية بهذه الطريقة أو تلك.
هو ليس بحاجة إلى أن يقول ذلك في رواياته، خاصة روايتيه الأخيرتين «خطوط الطول خطوط العرض» و»هناك في فج الريح»؛ لأن موضوع الرواية الأخيرة «في فج الريح» لا يتحمل زج الموقف السياسي السابق على أحداث ذات طبيعة تونسية حتى وإن كانت شخصية البطل عراقية، الذي تمثل فيه بوصفه رساماً. فحكاية الرواية هذه تتمثل في رسام عراقي يعيش في تونس، ويتعرف بطريق المصادفة على طالبة جامعية في تونس، فتصبح علاقة صداقة، تتطور إلى علاقة حب، فيما هو على علاقة بامرأة لها مشاكل مع زوجها، وتعيش في العمارة نفسها التي يسكنها. تلك الطالبة التي التقاها في محطة الباص معجب بها أستاذ التاريخ الذي يدرسها، وينوي الاقتران بها زوجة.
وتتطور تلك العلاقات، وهو موضوع شيق، يستحق العمل الروائي، ولاسيما بوجود شخصيات ثانوية من مثقفين وكتاب برامج إذاعية يترددون عليه ويحاورونه، لكن المؤلف ورغم وجود مشاهد مؤثرة حقاً كان يهرب بين الحين والآخر كمن يدافع عن نفسه وعن تاريخه.
وكأنه يعاني حالة اتهام هو بعيد عنها فراح يتحدث عن فترات سياسية عراقية وعن موقفه منها، حيث يعلن توجهاته اليسارية «أقصد البطل حسان» ورفضه الانتماء لحزب السلطة الفاشية بطريقة قسرية.
في تقديري هو ليس بحاجة إلى تبريرات كهذه. الموقف من الفاشية ومجابهتها ليس بالأمر الهين؛ لأن المجابهة تعني الموت، والموقف الوحيد للمثقف الحساس والواعي هو الهجرة، وهو موقف اتخذه كثير من مثقفي اليونان من الدكتاتورية ومثقفي تشيلي، والاتحاد السوفييتي السابق. أما الذي لا يتمكن من الهجرة فلقد اضطر للبقاء والعمل ضمن إطار السلطة بشكل أو بآخر.
لقد تركت تلك المشاهد التي ناقشها في جانبها السياسي والانتمائي أثراً سلبياً على مسار الرواية.
وقد تعمد لكي يضفي مصداقية على تلك الأحداث أن يسمي الأشخاص بأسمائهم.
لنقرأ مقطعاً من الرواية ثم نقرأ مقطعاً آخر:
«... ومع هذا جعلوا من إسماعيل الترك منشداً وهو النحات الكبير الذي لفت الأنظار إليه منذ أن كان طالباً في روما. إسماعيل الترك بصوته المبحوح آخر من يصلح للغناء، ولكنهم أرادوا طلته ووجهه وهو يحرك شفتيه، وربما كان النشيد كله قد سُجّل بأصوات أخرى وعملوا له دوبلاجاً رديئاً بحيث تبدو حركة الشفاه في مكان وكلمات الأغنية في مكان آخر».
هذا كلام غير مفهوم سوى للذي يعرف أن الدكتاتور العراقي طلب من الرسامين والمسرحيين والسينمائيين أن يقفوا كورساً مع المغني ينشدون له نشيد الحرب.
وهذا المقطع، ومنه الكثير، ليس في سياق الرواية، ولو أريد له أن يكون في السياق فإنه يصاغ بطريقة مختلفة تماماً وذات نفس روائي. في الوقت نفسه تزدحم الرواية بمشاهد سحرية ومتألقة في العواطف الإنسانية وفي تحليل شخصياتها.
«سلكنا شارع الأول من سبتمبر، وبدلاً من التوجه يساراً توجهنا يميناً، وكأنني أحسست ما وراء صمته. ولعله يريد أن يبوح بشيء أو كأنه معبأ بأشياء كثيرة، ولكنه لا يدري من أيها يبدأ؛ لذا يحاول كتمها، ولا يرى فائدة من إشراكي فيها، لعله مقتنع بأنها كبيرة علي، أنا الفتاة الجامعية التي التقاها صدفة في باص مزدحم ذات يوم مضى..».
نلاحظ بقدر ما كان المقطع الأول تقريرياً وصحفياً نرى المقطع الثاني روائياً، ويقود الشخصيات والأحداث إلى ذرواتها، ويقودنا بشوق فريد لمتابعة تطورات العلاقات الإنسانية هناك في فج الريح.
sununu@ziggo.nl