سلطان اللغة..
أ- المبالغات والعجائب
الولع بالغرائب عليقة في الوجدان العربي، لا يستطيع عنها فكاكاً، فالجاهليون يتتبعون أهل الكتاب، يسألونهم عن الزمان الأول وعن قصة الخليقة ومصير العالم، لا لشيء إلا التلهف للعجائب، فهم لم يكونوا يؤمنون بذلك، ولكنه حب المبالغات الكتابية.
جاء الإسلام وتنزل الوحي وسيقت قصص الأنبياء وأشراط الساعة ومبدأ الخليقة، ومع ذلك وجد بعضهم سوقاً لرواية الإسرائيليات، وجاء عصر التدوين وأُلّفت كتب التفسير وانتفخت بما نوافق ونخالف ونسكت عنه من أساطير ومرويات التوراة، ولم نكتفِ بما بين أيدينا من حكاية البداية ومن مصائر الأمم التي حصلت منها العبرة، وهي الأصل، فلِمَ الشطط؟.. وتساوقاً مع هذا امتلأت أسفار التراث بقصص الأولياء التي للقليل جداً منها وجهه الشرعي، والغالب الساحق فيها خرافات، وهي اليوم تُردَّد في المجامع والمجالس، وكأن المجتمعات العربية لم تمر بهزات إصلاحية واسعة.. العقل العربي ينسى جهود المصلحين..
كتب الأوائل الصحائف الطوال في الجناس والطباق وجرس الألفاظ فوافقت هوى في العقلية العربية التي نشأت على ثقافة الشفاه لمجموعة أسباب: حب الإغراب والأمية، وفي المترادفات والمتجانسات ميزة سهولة الحفظ، وبقي لهذا رواسب في عصرنا فمن قلَّب في كتب المقارنات الحضارية وما يعنى منها بالتراث والهوية ومن استمع لخطب الخطباء ووعظ الوعاظ وجد التساوق مع الكنايات والأسجاع مما لا يذكِّر بعصور الانحطاط فقط بل يرسخ في الأذهان الأحكام المقولبة، ويخلق الإمعات الفكرية المنسجمة مع حلاوة اللفظ على حساب المعنى؛ لذلك تسمع كثيراً (فلان عجيب) وفي الحقيقة نحن نريد من فلان أن يعطي الدليل على ما يقول، وأن يطرح الأسئلة أكثر من أن يعطي الأجوبة، فتعقد المسألة العصرية وتردي حال الأمة الذي مر بقرون طوال لا يُحلّ بأسجاع ودوغمائية (فلان العجيب..!). قال ابن رشيق «أكثر الناس في تفضيل اللفظ على المعنى. سمعت بعض الحذاق يقول اللفظ أغلى من المعنى ثمناً وأعظم قيمة وأعز مطلباً».
إنَّ الإغراق في محسنات البديع تزييف للحقائق، وضخ لكميات من التهاويل والتشنيعات مما لا يستقيم مع الحس والمنطق؛ لذلك أنكر عمر على صحار العبدي وصفه أرض مكران عندما قال «أرض سهلها جبل وماؤها وشل وتمرها دقل وعدوها بطل وخيرها قليل وشرها طويل والكثير فيها قليل والقليل فيها ضائع وما وراءها شر منها» فقال عمر رضي الله عنه أسجَّاع أنت أم مخبر؟ فأجابه: بل مخبر..!
عمر عبقري، والقرآن ينزل كما أخبر، ولو أنشدت هذه المقطوعة عند كثير من العلية والسفلة من العرب في القديم والحديث لهزُّوا رؤوسهم طرباً وانتشاءً..
ومن هذه الرحم يولد الشاب الذي يفقد التوازن بين المسجد والسوق وبين الإخوة والناس، بين المثال والواقع، بين الماضي والحاضر دوامة تأخذه لأحد مسارب ثلاث: إما التناقض بين الضمير والسلوك وإما (الانتكاس) وإما (التكفير)، والسبب غياب التربية المتينة. إن المجتمع الذي يفعل فيه الشريط الإسلامي الأفاعيل في بواكير الصحوة تكاثرت عليه الظباء، والشاب المؤسَّس على عاطفة يصاب بانهيار عصبي أمام أغوال التيارات الفكرية..
ومن صور ردود الفعل كذلك بما أنا تناولنا التربية والتأسيس:
المسار الذي ارتضاه بعض الدعاة إلى الله تماشياً مع ضغط الواقع ومتغيرات العالم، وهو نقل بعض المسائل من حيز الثابت لحيز المتغير؛ ليسهل الانطلاق بالحرية لأبعد مدى، وما هو إلا ردة فعل لما كان في الماضي القريب. لما كانت الصحوة هي المتن فثبتت أشياء تعلم هي قبل غيرها أنها من المتغير، فلما هبت الأعاصير طفقوا يبحثون عن الحل الذي كان في السابق لو نظر بعين استراتيجية لجاء حكيماً معتدلاً مقبولاً يداك أوكتا وفوك نفخ..
يرى علماء الايثنولوجيا أن للغة أثراً في الفكر. يقول آدم شاف «إن اللغة التي تحدد قدرتنا على الكلام هي نفسها التي تحدد قدرتنا على التفكير».
ب- التظاهر اللغوي
ومن أمثلة التظاهر اللغوي لدينا طريقة التعامل مع أحداث [[تسونامي]] 2005 عندما هرعت بريطانيا للتبرع بـ15 ألف جنيه إسترليني في الدقيقة حسب (البي بي سي)، وحسب تقرير صحفي بلغ معدل التبرعات مليون جنيه في الساعة عدا العينيات، وجميع القنوات التلفازية خصصت خطوطاً وحسابات للتبرع ومئات المواقع الإنترنتية للإدلاء بالمعلومات عن المفقودين.
بينما تفاعلنا مع الحدث كما نتفاعل مع قصص عاد وثمود. إن هؤلاء مجرمون أنزل عليهم الرب سوط عذاب. نعم، لا ننكر مظاهر التفسخ والعري على شواطئ شرق آسيا، وأن الله كما ذكر في كتابه العزيز {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} الإسراء 16، فقد تكون فعلاً عقوبة من الله.
ولكن الوقت وقت إغاثة فورية لا تحتمل المظاهرات اللغوية، وبعدما تسكن العاصفة بإمكاننا أخذ العبرة ونقلها لمن تبقى من جرحى ومرضى الحادثة مع الإغاثة اللاحقة لإعادة العمران. إنه الجسد المؤمن إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، فلنا نصيب من السهر ومن الحمى لا من المظاهرات اللغوية. ولقد قال كثير من الضحايا هناك للمؤسسات الإسلامية لما جاؤوا «أين أنتم؟ لقد سبقتكم المنظمات العالمية التنصيرية».
وهنا يجب التنويه بمبادرة السعودية والكويت، ولكن الحديث عام، ويتناول العقل العربي كله، العقل العربي الذي ينسى كيف أن هذه المنظمات التنصيرية اكتسحت إفريقيا بالعمل المؤسسي المنتظم المدعوم بقوة، بينما الجهود الإسلامية هناك تعتمد على جهود أفراد، في الغالب الذي يصل حد العموم.. التظاهر اللغوي يحرمنا من العمل بصمت..!
التبشير..
الديمقراطية شيء وشورى الإسلام شيء آخر. جاءت ردة الفعل على التبشير بالديمقراطية من المبشرين الأوائل بداية النهضة العربية بأن الديمقراطية لا نحتاج إليها؛ فهي أصلاً ممارسة إسلامية متمثلة في الشورى، فتساوى بذلك المبشرون والممانعون اختلفوا في كل شيء واتفقوا على ردود الفعل ونسيان الماضي.
الصراع بين الفلسفة والشريعة نموذج من نماذج الذاكرة المثقوبة إلى اليوم، والسؤال قائم: هل ما في الشريعة مجرد مثالات لما في الفلسفة من حقائق؟..
جذور الديمقراطية لدى اليونان تطلعنا على أن الديمقراطية كانت حكراً على القلة من الأثينيين دون الكثرة من العبيد والصناع وشعوب المستعمرات، بينما شورى الإسلام المستمدة من الكتاب والسنة شيء يختلف تماماً عن الديمقراطية ورحلتها الفلسفية عبر تاريخ الإغريق، فليست هذه تلك..
العلماني العربي يستخدم الدين إذا أراد، وعلى مستوى الدولة العربية لا أنسى تلك الدولة التي تنتهج العلمانية دستوراً وتقول في حق بعض سجناء السياسة الذين دعوا لتحكيم الشريعة لديهم «إن هؤلاء السجناء محاربون لله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً فليحكم عليهم بأن يقتلوا أو يصلبوا أو تُقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف» فلا تدري أعلمانية أم عمرية أم نسيج ينقض آخره أوله؟!..
الليبرالية العربية وكذلك العلمانية لا تزالان تبشيريتَيْن إلى اليوم عدا بعض محاولات د. كمال عبد اللطيف أستاذ العلوم السياسية بجامعة الرباط، محاولات تلوح بالتفكير في العلمانية وكذلك الليبرالية لإعطاء صياغة لا مستنسخة من الغرب كما هو الحال من أيام طه حسين وشبلي شميل وفرح أنطون، بل صياغة مناسبة للأرض العربية، ولم يخلص إلا للتأريخ لتلك المحاولات، وقد وقع أكثر من مرة في التبشير بالليبرالية والعلمانية مع بعض الوعود بالتفكير في المفهوم.. وعلى الصعيد المحلي نجد ليبرالية الخليج ليبرالية شهوات، فمن قيادة المرأة للاختلاط لمسائل لا تبت لليبرالية بصلة، وعندي إيمان كامل بأن الليبرالية الخليجية مزيفة.. هم يهرفون بما لا يعرفون، ويعدون ذلك ثباتاً على المبدأ. لقد تغيرت كثير من الظروف وماعت كثير من الجامدات، وما زالوا يفتعلون الممنوع، حالهم حال من رفع معولاً ضخماً يصارع به الهواء. وهنا مثال ينطبق على ما نحن بصدده تماماً: روي أن جحا سُئل عن عمره فقال أربعون سنة، وبعد عشر سنين سئل عن عمره فقال أربعون. فقيل له لقد قلت هذا قبل عشر سنين، فقال نعم أنا رجل والرجل لا يغير كلمته..!
التبشير بحياة الغرب من ألفها إلى يائها ما زال شعار التبشيريين العرب، وقد قال سانتيلانا «عبثاً نحاول أن نجد أصولاً واحدة تلتقي فيها الشريعتان الشرقية والغربية».
وهنا لا بد من التذكير بالفلسفة التي تمايز الإسلام عن غيره، وهي أن المصلحة لدى غيرنا هي اللذة (الفلاسفة) والقوة (منظرو السياسية) بينما في الإسلام تتناول الروح والمادة المعاش والمعاد، ولكن قومي ينسون كثيراً، وإلا فما معنى أن تتناول الأطروحات الفكرية اليوم كل هدف وكل مسار يرتبط بالحاضر (الدنيوي) في إغفال صارخ لآي الذكر الحكيم الذي تناول بتوسع البرزخ والقيامة والحساب وقصص الأنبياء وأحوال الأمم؟.. ومثل هذا الطرح يثير الرثاء لحالي وحال الطوباويين أمثالي، وعند الله تجتمع الخصوم..
كي لا نقع مرة أخرى..
المقاصد الشرعية انقسمت فيها المدارس إلى ثلاثة اتجاهات:
1- نصوصية: فلا ثمة إلا ظاهر النص ولا يأبه بالمقصد.
2- تأويلية: فالأصل لديهم التأويل معرضين عن النص منصرفين تماماً إلى المقصد.
3- وسطية: تستخرج المقصد من النص جامعة بين جزئية النص وكلية المقصد.
وهذه القضية من معاقد الولاء والبراء في المشهد العربي.
وسبب الانقسام الذريع من الأقصى للأقصى لمن يقطنون قطعة واحدة ويقرؤون قرآناً واحداً ويشتركون في المصالح ويتقاسمهم المستقبل هو العقل العربي الذي يأنس بالوصول بالشيء إلى أقصى حدود الأطراف ويزورُّ عن الوسط، والسبب الآخر هو أن الخيار [1] سهل، وكذلك [2]، أما [3] فيحتاج إلى دربة وآلة وطول نظر وتأمل، والعقل العربي يفر من العمق فراره من الأسد، ويتعشق الجاهز. العقل العربي ينسى أنه لا يطيق التركيب ولا التفكيك..
ولا أزال أذكر صاحبين لي، أحدهما [عمرو] يوصي بالعزلة وعدم التفاعل الثقافي مدندناً حول [انج سعد فقد هلك سعيد]، والآخر [زيد] يرى الاختلاط الثقافي والتطبيع لدرجة التمازج المثير للغثيان والمخالف لطبيعة الأشياء، وفي مشهدنا ألف زيد وألف عمرو..
وممن تناولوا العقل العربي بالنقد مجموعة ينتمون للمدرسة [2]، وهنا أورد مثالين: ذهب د. الجابري وجماعة إلى أن عمر يعطل النص إذا رأى المصلحة. يقول د. الجابري في كتابه [الدين والدولة وتطبيق الشريعة] ما نصه «إن الصحابة كثيراً ما نجدهم يتصرفون بحسب ما تمليه المصلحة، صارفين النظر عن النص، ولو كان صريحاً قطعياً إذا كانت الظروف الخاصة تقتضي مثل هذا التأجيل للنص». ويعيد التاريخ نفسه، وينسى العقل العربي كثيراً، وننبهر بما تكتبه هذه المدرسة اليوم، ونرى فيها عبقرية تلوح بالأمل المنشود. لقد قال هذا من قبل واصل بن عطاء وجماعته، فما هي إلا ثقافة تجتر نفسها، ومن المتقرر لدينا أن النص الصريح لا يمكن بحال أن يعارض مصلحة متعينة، فالشارع حكيم، وكلنا نؤمن بهذا.
وهذه مسألة ليس هذا مكان بسطها. ويضرب مثالاً على هذا بما حصل بين أبي بكر وعمر من شأن مانعي الزكاة، فيرى أن عمر أسقط النص القائل بالزكاة لأجل المصلحة، والصحيح أن عمر استشهد بالنص عندما قال «كيف نقاتل الناس وقد قالوا: لا إله إلا الله وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله إلى فإذا قالوها فقد عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله))». فقال أبو بكر «الزكاة حق المال»، وهنا يتبين أن الحوار بين الشيخين كان مستنداً إلى النص.. فأين تعطيل النصوص لأجل المصلحة..؟!
والمثال الآخر [سهم المؤلفة قلوبهم]. ذهب د. الجابري وجماعة إلى أن عمر عطله.. فمن أين جاء هذا الفهم؟ جاء لأن العقل العربي - كما ذكرنا - يأوي للأطراف دائماً، وإن تجمل بألفاظ الوسطية والنظر العميق فهو يلف ويدور إلى أن يفر من الوسط.. المؤلفة قلوبهم مجموعة من الأعاريب قال عمر في حقهم [لقد أعز الله الإسلام وأغناه عنكم]، وهنا سؤال: أي ضرر يخشى أو نفع يرجى من هؤلاء بعد أن حطم الإسلام عرش كسرى وقيصر قطبي القوة ذاك الزمان..؟
ثم أيضاً، ولنتناول مصرفاً آخر من مصارف الزكاة: هب أن أحدهم كان فقيراً ويستحق بنص الآية الزكاة؛ فورث ذات يوم أو وجد كنزاً كفاه وأغناه؛ فهل يُعطى من الزكاة لأنه كان فقيراً مثلما كان هؤلاء مؤلفة قلوبهم..؟ عمر لم يُعطّل النصوص، ولو عطلها فأين أهل بدر والشجرة الصحابة الكبار..؟
الشيء الوحيد الذي لا يمكن بحال أن ينساه العقل العربي هو تمجيد الذات ووهم السيادة.. وذاك هو الجبل المنيع في سبيل الإصلاح، فإذا كنا ماجدين وأسياداً فلماذا الإصلاح..؟!
تجربة عمر بن عبد العزيز وللمرة الألف لا يمكن أن تعود؛ فلها ظروفها وزمانها، ولكن هذا لا يمنع من أن تكون نموذجاً للعدل ومثالاً للنزاهة نسعى إليه.. أحدهم دخل مطعماً وطلب سمكة فلما رفع منها لقمة وجدها فاسدة فصاح في النادل «إنها فاسدة» فرد عليه النادل بقوله «عجباً، لك لقد جئتنا قبل أربعة أيام وقدمنا لك سمكة من نفس الصندوق الذي جلبناه ذاك اليوم ومدحت طزاجتها».. نعم، هي طازجة قبل أربعة أيام، ولكنها اليوم غير طازجة..
التاريخ لا يعيد نفسه...
t-alsh3@hotmail.com