لم يكن غيابه عادياً.. كان ملء عيني وقلبي.. كان نوراً استضيء به في عتمة ليالي المظلمة، كانت قشعريرة جسمي تلازمني يوم أن أقبّل جبينه الطاهر، كان وكان لم يكن ولم يكن.. لا تجدي العبارات فقد فقدته هذا الشهر.
في عتمة الهم وفي إشراقة الأمل كان أملاً يرتجى، لم يكن قادراً على الحراك، ولكنه كان قادراً على الدعوات، لم تكن دعواته مفتعلة، ولم تكن دعواته آنية، كانت في كل آن وحين، لقد فقدته هذا الشهر.
جاء شهر الصيام وجاءت ذكريات تلك القامة الربانية الشامخة المتعلّقة بالسماء، يهلّ الشهر وتهلّ علينا معه دعواته المعطّرة بدموعه الطاهرة، كل يوم هو في شأن واحد.. شأن هل يقبل صيامنا أم يرد؟ يذكّرنا دوماً بأهمية أن نعمل ونعمل ونسأل الله القبول.. دوماً يعلّقنا بالله.. دوماً يذكّرنا بأنّ الدنيا لا تستحق منا أكثر من أن نسعى السعي المعتاد ونكل الأمور لله وحده.. دائماً يذكّرنا بقيمنا وأخلاقنا وأنها هي الرصيد الحقيقي للإنسان، كان فريداً من نوعه في زهده وحرصه على آخرته.
جاء شهر الصيام ومعه ذكريات أب وأم، أبي لم يكن عادياً، أقول ذلك ليس من عاطفة البنوّة، ولكنه الحقيقة التي يعرفها كل من اقترب منه وعلم شيئاً من سريرته، كان ورعاً زاهداً بما تعنيه الكلمة، كان القليل عنده كثيراً يخشى من الحساب عليه يوم العرض الأكبر، إذا استلذ طعاماً تذكّر الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام يوم خرج يبحث عن من يستضيفه من الجوع، دوماً يتذكّر هذا الموقف النبوي العظيم ويستحضر ما هو فيه من نعمة.
دعواته لها، لتلك الزوجة الحانية، لأمي التي لم تكن أماً فقط، بل كانت مربية من طراز فريد، لا أعتقد أنه يوجد مثلها هذه الأيام، على يديها تعلّمت الأدب مع الناس ومن ثديها رضعت حب الآخرين وحب الخير ونفع الناس، من دفء حضنها تعلّمت دفء مشاعري داخل بيتي ومع كل الأصدقاء، كانت مدرسة تقدم الدروس العملية لا القولية، ربّت أبناء وبنات، أشكر الله أنهم حفظوا لها فضلها ودوماً يتذكّرون تميّزها وأثرها في حياتهم.
جاء شهر الصيام وجاءت الذكريات تتزاحم عنك يا أبي كأول رمضان يمر عليّ وأنت بعيد عني، بعيد بدعواتك، بعيد بتوجيهاتك، بعيد بشعوري بتوقّف هذا النهر الجاري من الخير لي ولإخوتي، بعد غياب شمسك، غبت يا أبي وغابت معك قناديل الشهر التي كانت تزين محيا كل واحد منا، افتقدتك جموع المصلين كما افتقدتك آيات القرآن الحكيم، افتقدك كل محب للخير قريب من الله، كما افتقدك كل مقصر كنت له خير معين وداعياً بالصلاح والتوفيق، افتقدتك أمي في قبرها، حيث كنت الأبر بها من كل ولد.. كنت معترفاً بفضلها على بيتها، مؤمناً بدورها الكبير الذي قامت به في تربيتنا، رحمك الله يا أبي ورحم أمي ولا حرمكما فضل وخير هذا الشهر العظيم.
اللهم ارحم كل آبائنا وأمهاتنا.
والله المستعان.
almajd858@hotmail.com