كان من أبرز المعالم التي رسمتها حملة «السكينة للحوار»، في رسالتها الموجهة إلى الجهات التعليمية لمعالجة الغلو قبل أيام، هو: التأكيد على صياغة المناهج الدراسية، صياغةً محكمةً متينةً؛ بحيثُ تُشحنُ بأشكالٍ من التأصيلِ، والفقهِ المنهجيِّ الرَّشيدِ..
ومنْ الأمثلة التي أشار إليها مدير عام الحملة الدكتور عبدالمنعم المشوح: تأصيل مفهومِ الوسطيةِ والاعتدالِ. ومفهومِ التَّشدد والغلوِّ. وبيانِ تاريخِ الغلوِّ الأسودِ؛ وما جَرَّهُ على الأُمَّةِ في امتدادها الزَّمنيِّ منْ كوارثَ ومصائبَ، وتأصيلُ مفهومِ الأمنِ وضرورتهِ الحياتيةِ. وتأصيلُ مفهومِ العالمِ الَّذي يُمثِّلُ المرجعيةَ العلميةَ في الأمةِ، والمؤَهَّلَ -بالتَّالي- لأنْ يُستفتى في قضايا الأمةِ المصيريةِ، دونَ غَيرهِ مِمَّنْ يُشاركهُ في أصلِ العلمِ والتَّعلُّمِ، وفقه الولاءِ والبراءِ، وفقه الحكمِ بغيرِ ما أنزلَ اللهُ، وفقه التَّكفيرِ، وفقه الدِّماءِ المحرَّمةِ المعصومةِ، وفقه الجهادِ، وفقه السِّلمِ والحربِ. وفقه النَّصيحةِ والأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عنِ المنكرِ، وفقه التَّعاملِ مع قضايا المسلمينَ، وفقهُ الدُّورِ، متى تكونُ الدَّارُ دارَ حربٍ أو إسلامٍ؟... إلخ. وفقه التَّعامل بينَ الرَّاعي، والرَّعيةِ.
هذه المسائل التي ذكرها مدير عام الحملة، وغيرها كثير، والتي تُعتبر من النوازل الفقهية، باعتبارها الميدان الفسيح الذي يستوعب ما جد من شؤون الحياة، وتبدل الأحوال، وتغير الظروف، تحتاج -بلا شك- إلى دراسة؛ لمعرفة القول الراجح بالدليل من الكتاب، والسنة، وأقوال العلماء المتقدمين، والمتأخرين، والمعاصرين. وتوضيح المسائل العالقة بأوضح إشارة، وأوجز عبارة. إن توجيه الناشئة للمنهج العلمي الأمثل، الذي يتطلب تعريفهم بفقه النوازل، وأهميتها، والتأصيل الفقهي لها، والاستفادة من الأدلة الشرعية؛ لمعرفة أحكامها، وتمكينهم من معرفة القواعد، والضوابط الفقهية، ومقاصد الشريعة، واستثمار ذلك في استنباط الأحكام الفقهية، وإلحاقها بأدلتها المناسبة، سيكون سبيلا مهما؛ لتلافي الأخطاء المنهجية في طريق الطلب، وتوفير الجهد، والوقت.
ولتميز عصرنا بالتطور المادي الكبير، وشموله مناحي الحياة كافة، كوسائل الاتصال الهائلة، والوسائط الإلكترونية، وتقنية المعلومات، فقد أبرز هذا الواقع الذي نعيشه جملة من النوازل الفقهية، أدى إلى تباين الاختلاف في الفتاوى، بل والتنافر بين أصحابها، وكان سببا رئيسا في تفرق الكلمة ووحدة الصف، إضافة إلى الاضطراب الذي طال كثيرا من المسلمين جراء هذا الاختلاف، بسبب عدم توافر الثروة العلمية والتأصيل الشرعي من جهة، وغياب التمييز بين أنواع الفقه كفقه الضرورات وفقه المقاصد وفقه المآلات وفقه النظر لأحوال المخاطب من جهة أخرى، ولو كان الأمر عكس ما ذُكر؛ لرأينا قدرة الفقيه على تكييف الحكم الشرعي على النازلة الحادثة، فهذا ميدانه الأصولي وساحته الفقهية وحلبته المستنبطة.
إن تغير الاجتهاد في مسائل كثيرة، بناءً على تغير الأحوال، وتبدل الظروف مع استصحاب الضوابط الشرعية اللازمة لذلك، والإشارة إلى أهم المسائل الأصولية ذات الصلة بها، هو المنهج الشرعي في استنباط حكم النوازل الأصولية. وبذلك نكون قد استفدنا من النازلة في رسم الحكم الشرعي لها، واستطعنا أن نجمع بين الأصالة والمعاصرة، والتجديد والمواكبة في الأحكام والنوازل.
بقي أن أقول: إن الفقه بحر لا ساحل له، وهو قادر على استيعاب كل نازلة من النوازل، وتقديم حلول ناجعة لقضايانا المعاصرة، وفي هذا دلالة واضحة على صلاحية الدين الإسلامي لكل زمان، ومكان.
وككل حركة علمية، كان لا بد أن يصحب الأحداث ويواكب النوازل بيان حكمها الشرعي، إبراءً للذمة وأياً كان الحكم حِلاً أو حُرمة، مع ضرورة التأكيد على فتح باب الحوار العلمي، والمساهمة في صنع مادة الحوار، والمناقشة في تلك القضايا المستجدة، إذكاءً لروح المشاركة لدى الجميع، وإشعاراً لهم بالمسؤولية العلمية، والشرعية.
drsasq@gmail.com