خسرت الأسواق العالمية في أسبوعين أربعة ترليونات دولار وارتفع الذهب ليحقق قمة سعرية غير مسبوقة تجاوزت 1800 دولار أمريكي للأونصة بينما انخفضت قيمة الدولار امام باقي العملات الرئيسية بنسب متفاوتة لكن سرعان ما حاولت تلك الدول التدخل لكبح جماح انخفاضه من خلال ضخ سيولة هائلة بالأسواق خوفا من تأثير أوسع على الأسواق والاقتصاد العالمي.
كل هذه الأحداث أتت بعد خفض التصنيف الاتئماني لأميركا وعودة المخاوف من أزمة الديون السيادية بأوروبا بعد أن انتقلت لثالث ورابع اقتصادين فيها إيطاليا وإسبانيا لكن تدخل القادة بأميركا وأوروبا كبح جماح الانزلاقات الرهيبة في محاولة لتهدئة الأسواق من جهة واستقرارها بشكل يضع المستثمرين أمام مساحة واسعة من الوقت للتفكير بشكل صحيح في حجم الأزمة وأبعادها وإمكانية التغلب عليها.
ولكن بالمقابل ماذا نقرأ بردة فعل المتأثرين الأقوياء بالعالم حاليا ونعني هنا بدرجة رئيسية الصين المراقب لكل ما صدر عن هذه الدولة صاحبت المركز الثاني بالاقتصاد العالمي وأكبر دائن للولايات المتحدة الأمريكية وكذلك صاحبة أكبر احتياطي نقدي بالعالم بما يفوق ثلاثة ترليونات دولار أميركي أطلقت جملة تصريحات هاجمة فيها الإدارة الأمريكية بطريقة تعاطيها مع قضية رفع سقف الدين الأمريكي الذي تمت الموافقة على رفع سقفه بآخر يوم من المهلة التي حددتها وزارة الخزانة بأميركا لإعلان التوقف عن السداد لالتزاماتها أمام الدائنين فقد اعتبرت الصين أن هذ الأمر يعد مخاطرة غير محسوبة وتثير القلق بالعالم وتؤثر على مستقبل الاقتصاد العالمي سلبا على المدى المتوسط والبعيد وأصبحت الصين تنظر بقلق شديد حيال زيادة استثمارتها بالدين الأمريكي بل وحتى ما تملكه الآن بمعنى أنها قد تراجع خططها بهذا الشأن مستقبلا وبشكل كبير يخفض من حجم احتياطاتها المقومة بالدولار.
لكن ما صدر عن بنك الشعب الصيني من تقرير أكد فيه تدخله لرفع قيمة اليوان أمام الدولار حيث تربط الصين عملتها بالدولار وبنسبة ربع بالمائة وتأكيدها على أنها بصدد السير قدما في هذا الجانب حتى تضمن كبحاً لجماح التضخم من جهة وكذلك تقلل من الاعتماد على باقي السياسات النقدية من رفع لمستوى الفائدة أو رفع لاحتياطات البنوك كآليات تمنع تغلغل التضخم في اقتصادها وتحافظ على قدرة مواطنيها بالحصول على احتياجاتهم المعيشية بنفس التكلفة المقدرة في حسابات مداخيلهم وكي لا تضطر إلى رفع الأجور وكذلك تبقي على قدرتها بتحقيق معدلات نمو مستهدفة دون تأثير من رياح ارتفاع الأسعار ودخول البلاد بموجة تضخم لن تضعف اقتصادها فقط بل قد تقود إلى اضطرابات اجتماعية كبيرة فالصين يفوق عدد سكانها مليار وأربعمائة مليون نسمة وكدولة تعتمد على التصدير والإنتاجية الكبيرة فإن القوى العاملة لديها هائلة ولا يمكنها تحمل تبعات البطالة فيما لو استشرت بشكل كبير في حال تراجع النمو الاقتصادي لديها.
ومن هنا تبرز أهمية خطوة الصين بالوقت الحالي في أنها لا تريد البقاء ضمن الطريقة الكلاسيكية التي اعتمدتها طوال العقود السابقة في طريقة تعاطيها مع مبدأ ربط عملتها بالدولار بمستوى سعر صرف لا يتغير إلا نادراً خصوصا في العامين الماضين حيث كان سبب التغيير بضغوط أميركية وأوروبية وذلك لتعديل كفة ميزان التجارة العالمية كي تتكافأ الفرص بين الدول ويتحسن سوق التصدير للدول القابعة تحت براثن الأزمة المالية العالمية التي بدأت في العام 2008.
لكن تعديل أسعار صرف العملة الصينية أمام الدولار هذه المرة لأسباب مختلفة خلفتها أزمة رفع سقف الدين الأمريكي فمن الواضح أن قراءة الصينيين لمستقبل تبعات ما بعد خفض التصنيف الائتماني تقوم على مبدأ أن الدولار سيستمر بالانخفاض مستقبلا وقد ينزلق لمستويات كبيرة إلا أن الحلول التي يجب اتباعها لا بد أن تنطلق من احتياجات الاقتصاد المستجدة فمن الآن لا يوجد دين أميركي معدوم المخاطر ولا يوجد دولار قوي واضح كما كان في السابق فلا بد من رفع مستوى قدرة الفرد الصيني على الاستهلاك لكي تتعدل كفة الاقتصاد في تقليص اعتماده على التصدير مقابل توسيع قاعدة الاستهلاك المحلية التي ستضمن تماسكاً اقتصاديا بل ونمواً مستمراً بمعدلات قوية وبالتالي رفع مستوى تشغيل الطاقات العاملة على المدى المنظور خلال العقد الحالي والذي يليه.
لقد بات واضحاً أن توجهات جديدة ترسمها الدول التي تقود قاطرة النمو الاقتصادي العالمي وعلى رأسها الصين في طريقة تعاطيها مع مستقبل الدولار الأمريكي ومن المؤكد أن جل الدول التي تربط عملتها بالدولار ستعيد النظر بمستوى سعر الصرف أمامه فلو أخذنا وضع دول الخليج فهم يستثمرون بالسندات الأمريكية مثل الصين وعملاتهم باستثناء الكويت جميعها مربوطة ربطا كاملا بالدولار ولديهم فوائض مالية كبيرة وتتأثر دولنا بمعدلات التضخم المرتفعة عالمياً بشكل كبير وأوضاع المنطقة الاقتصادية تعد في أفضل حالاتها قياساً بباقي دول العالم وبالتالي فإن المحافظة على هذه المكتسبات تتطلب تحركاً مستقبلياً يتناسب مع ظروفها وخططها التنموية المستقبلية وتعزيز دور الفرد بالاقتصاد والمحافظة على قدرته الاستهلاكية بعيداً عن استمرار اتباع سياسة الدعم الحكومي للسلع الأساسية أو رفع الأجور فأي انخفاض بسعر النفط سيؤثر كثيراً على التزامات الميزانيات العامة حيث تشكل الرواتب جزءاً كبيراً منها لأن غالبية الموظفين من المواطنين هم حكوميون ومن هنا فإن الآفاق أمام حركة العملات الخليجية وعلى رأسها الريال السعودي قد تكون باتجاه تغيير سعر الصرف وسيتضح واقع الدولار والاتجاه الخليجي عموما نحو تعديل الصرف أمامه من ستة أشهر إلى عام على أبعد تقدير فأما أن يعود الدولار إلى وضعه السابق وتعود أميركا لسياسة الدولار القوي أو أن تطورات الاقتصاد الأمريكي وواقعه الصعب ومعه أوروبا أيضا ستفرض الواقع الذي يبدو أنه غير مشجع إلى الآن مما يعني عودة الدولار للانخفاض مجدداً وسيستوجب ذلك تغيير النهج الثابت أمامه منذ أكثر من عقدين.