خلال تواجدنا في ماليزيا خلال الشهر الماضي لفتت نظري الإعلانات المسبقة عن برامج الاحتفاء برمضان بنكهة محلية خاصة, في نشاطات مرتب لها مسبقاً؛ منها الدينية التوعوية وتلك الأخرى الترفيهية التي تتوافق مع منتصف الشهر.. ولا أشك أن هناك ما يتفق مع الروح الاحتفائية هذه في البلاد الإسلامية الأخرى من أفغانستان حتى تركيا ومصر وبلاد المغرب العربي.
فإلى جانب جدية القيام بواجبات الشهر الفضيل من العبادات, خاصة صلاة التراويح الجماعية, نتذوق كمسلمين لذة انتمائنا وإيماننا الخاص, بصورة أكثر تكثيفاً خلال شهر الصيام أينما كنا؛ في الغربة بالتجمع مع بعضنا, وفي الأوطان الإسلامية بصورة أكثر وضوحا بتفاصيلها وطقوسها الرمضانية المتوارثة احتفاء بالصيام والقيام وروحانية الأجواء. وللروح الاحتفائية هذه -وبصورة جماعية جميلة- نكهتها الخاصة، حيث تركز على المشاركة والحضور العائلي والتقارب مع الجيران. وما الخيمات الرمضانية والسرادقات للإفطار المشترك, وتبادل الطعام بين الجيران وفرح الصغار بالأناشيد والفوانيس إلا شيء من هذه الروح.
صديقتي أم صلاح ونحن نتبادل التبريكات بحلول رمضان اكتشفت أن من كانت تقوم بمهمات الطبخ في منزلنا غادرت إلى وطنها قبل الصيف, وأننا ونحن بلا «طباخة» سنحرم من تبادل الأكلات الرمضانية بالصورة اليومية المعتادة، كما كنا نفعل كل موسم. إلا أن أم صلاح -بارك الله فيها- أصرت أن تشاركنا بصحون الإفطار رغم اعتراضي.
غداً مع اكتمال بدر الخامس عشر من شهر رمضان الكريم يحتفل العالم الإسلامي بتفاصيل خاصة في كل منطقة منه. وفي منطقة الخليج من العراق حتى عمان نستعد لهذه المناسبة بطقوس متوارثة نعرفها باسم «الناصفة» أو «القرقيعان».. حيث يبدأ الأطفال بعد صلاة التراويح في المرور على بيوت الحي والأحياء القريبة في مجموعات ترتدي ملابسها الاحتفالية، ويحمل كل طفل أو طفلة كيساً من القماش خاطته الأمهات مكتملا برباط يغلقه.. ويتوقفون معاً عند كل باب يهزجون بترنيمات متوارثة: «أعطونا الله يعطيكم.. بيت مكة يوديكم» لتفتح صاحبة البيت بابها وتضع في كيس كل طفل حفنة وافية من المكسرات والحلويات فيدعون لها بحج بيت الله الحرام, و لأولادها بالسلامة والتوفيق و إرضاء الوالدين.
في الطفولة كانت استعدادات الناصفة تبدأ مع أول الشهر حين تتسلى النساء في أوقات فراغهن بخياطة الملابس المطرزة التي سيرتديها الصغار في موكب القرقيعان متباهين بها على أقرانهم, إلى جانب تحضير الأكياس الملونة التي سيحملونها ليجمعون فيها المكسرات والفواكه المجففة من البيوت, وحتى بعض النقود في حالات حظيظة من بيوت بعض الأثرياء -وربما من قرقعة النقود جاء اسم هذه الاحتفالية الطفولية المبتهجة بفرحتها الصغيرة-. وإذ لم تكن الكهرباء تنير الشوارع كان لابد من حمل الفوانيس لإضاءة الدرب بين البيوت والحواري. ومن هنا جاءت طقوس فوانيس رمضان التي يحملها الأطفال ليتغنوا في أزقة المدن الإسلامية حتى اليوم.
يجوب الصغار الأزقة في ابتهاج مشترك وأمان, حتى ينتهون من كل الأحياء القريبة ويعودون إلى بيوتهم منهكي الأقدام من الجولة الطويلة, والأكتاف من حمل الأكياس التي ثقلت بما امتلأت به من العطايا. ولكنهم سعداء وراضون، وقد تشبعوا من روح الزمالة في الجولة المشتركة وروحانية الشهر في تلاقي الأجيال عبر الأبواب المشرعة لمصافحة الفرح المشترك.
ربما اختفت الفوانيس الآن إلا من اللوحات التعبيرية بين برامج التلفزيون, وتقلصت مواكب القرقيعان من الشوارع والأزقة إلى احتفالات في مراكز الجمعيات المكيفة حماية للصغار من حرارة الصيف وأخطار الدروب.. ولكنني سعيدة أن أرى بهجة «القرقيعان» تعود ممارسة تضيء وجوه الأطفال بالفرح.. وتنشر ثقافة الفرح والطمأنينة. فكل عام وأنتم وأطفالكم من العايدين السعيدين وكل قرقيعان وأنتم بخير. ولنتذكر بالدعاء من تحرمهم وطأة التصحر أو الصراعات والعنف في جيرتنا العربية والإسلامية ليمن الله عليهم برفع الغمة وعودة البهجة إلى القلوب و الشفاء للأبدان.