كتب - محرر الوراق
يقول معالي الأستاذ جميل الحجيلان وهو يستذكر ما مَرَّ به مع صقر الجزيرة ومؤسس هذا الوطن الكبير الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه: ما زال مستقراً، في مكامن الوعي الدائم، على الرغم من مرور ما يقرُب من خمسين عاماً على انقضائه، ذلك الحدث الذي عاشه ابن الأربعة والعشرين عاماً، وهو في مجلس الهيبة، والوقار، والوداعة أيضاً، مجلس الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله.
كان ذلك في يوم الثلاثاء 28 رجب 1371هـ/ 22 إبريل 1952م وأنا أقوم بالترجمة بين الملك عبدالعزيز ووفد رسمي كبير يرأسه وزير خارجية إسبانيا السنيور روبرتو خوزيه آرتاخو. لم أكن لأجرؤ على أن أتطلع يوماً لمثل هذه المهمة، وأنا لم يمضِ على التحاقي بوزارة الخارجية إلا عام وأربعة أشهر. بل كان يخيفني أن يُعهد إليَّ بمهمة كتلك التي عهد بها إليَّ، والروايات عن ذلك البطل، هيبته، وجلاله، وشموخ تاريخه، وطغيان شخصيته على كل من حوله من أكابر الرجال قد ملأت مسامع الدنيا، وتداولها الرواة في كل مكان.
كان يبدو أمامنا، وهو جالس على مقعد متواضع، في قصر المربع في الرياض، شامخاً كالجبل، تُحيط به هالة من إقرار التاريخ له بالشجاعة، والحكمة، والحزم، وبُعد النظر، والفضائل الشتى، التي تصنع أعاظم الرجال. وكنت أنا على حال لا توصف من الهلع والارتباك. وقد أدرك - رحمه الله - حداثة سني، وارتباكي، بل جزعي من الموقف الذي أنا فيه، فكان حديثه لي حديث الوالد يسعى لاقتلاع الخوف من نفسي المضطربة فكان له ما أراد.كان ذلك الوفد الإسباني الكبير أول وفد يبعث به رئيس الدولة الإسبانية ليُقابل ملوك أكبر دولتين عربيتين (مصر والمملكة العربية السعودية)، وكان ذلك اللقاء أول درس في سياسة بلادي الخارجية، أتلقاه بانبهار من رجل يتحدث التاريخ عنه أيضاً بانبهار، من ملك قاد مسيرة التأسيس والبناء والمنهج السياسي لبلد ظل في قلب الأحداث ملتزماً بالثوابت التي أرساها عبدالعزيز؛ ليحملها من بعده بصدق الالتزام ملوك آل سعود.
قال الملك عبدالعزيز، فيما قاله لضيفه الكبير، والذاكرة ضنينة بكل ما اختزنته عن ذلك اللقاء بما معناه: «إننا أمة كرمها الله بالإسلام، أقمنا عليه وجودنا، وجعلناه أساساً للحُكْم والحياة. نريد أن نكثر من الأصدقاء، ونتحاشى العداوة أو الخلاف مع الآخرين. نحن ليس لنا مطمع في أرض أو مال أو جاه؛ فبلادنا - والحمد لله - واسعة شاسعة، والخير عندنا بفضل الله كثير، وفوق هذا وذاك شرفنا الله بخدمة بيته الحرام، وهو شرف لا يضاهيه شرف آخر. وعلاقتنا بإخواننا العرب والمسلمين هي أن نناصرهم إن كانوا مظلومين، ونعينهم بالرجوع إلى الحق إن كانوا مخطئين. نحترم حقوق الجار، ونلتزم بالعهود، ولا نتدخل في شؤون الآخرين، كما أننا لا نقبل أن يتدخل أحد في شؤوننا».
ومرت مدة صمت عابرة، التفت بعدها - رحمه الله - إلى ضيفه الكبير قائلاً: «أرجو أن نتعاون معكم على مساعدة إخواننا في المغرب وتونس والجزائر على استقلالهم والخلاص من الحكم الفرنسي. وعليكم مسؤولية كبيرة في ذلك لقربكم منهم ومن فرنسا. وما هو حاصل الآن هو ظلم وقهر لتلك الشعوب العربية المسلمة، ولا يمكن لهذه الحال أن تدوم...».
هذا حديث الحجيلان وهو شخصية مخضرمة وعريقة عاصرت ملوك هذا الوطن العزيز جميعهم، وهي لا تحتاج إلى تعليق بل يعلق عليها واقعنا الكريم المتمثل في مواقف خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وقبله أنجاله الكرام بالاهتمام بقضايا المسلمين في كل مكان.